يوم الأرض.. تمسك بالحقوق وبمقاومة الاحتلال
د. معن منيف سليمان
يُعدّ يوم الأرض مناسبة لمقاومة الاستيطان والتوسّع العنصري وجدار الضم الذي تبنيه سلطات الاحتلال فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، وهو يوم يعبّر فيه الفلسطينيون عن رفضهم لكافة السياسات الإسرائيلية وممارساتها التعسفية، وخاصّة في القدس المحتلّة، من مصادرة لأراضيها وبناء المستوطنات عليها وضمّ المقدّسات وسرقة لآثارها وطرد لسكانها.
ففي الثلاثين من شهر آذار عام 1976، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية، وخاصة في منطقة الجليل، وعلى إثر هذا الاعتداء الممنهج، قرّرت الجماهير العربية في الداخل الفلسطيني إعلان الإضراب العام احتجاجاً على مصادرة أراضيهم، حيث وقعت اشتباكات مع أجهزة القمع والتنكيل الصهيونية، واستشهد عدد من المواطنين في مدن الجليل، ومنذ ذلك الحين يحيي الفلسطينيون هذه الذكرى التي أصبحت مناسبة وطنية فلسطينية وعربية، ورمزاً لوحدة الشعب الفلسطيني، ومنطلقاً متجدداً للتمسك بالحقوق ومواجهة الاستيطان والتوسع العنصري.
لقد أعلنت سلطات الاحتلال الصهيوني في أوائل عام 1976، عن خطة استيطانية لتهويد الجليل تحت عنوان “مشروع تطوير الجليل”، واشتمل المشروع على تشييد ثماني مدن صناعية في الجليل تمتد على مساحة عشرين ألف دونم من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي التي يطلق عليها اسم “الأراضي البور والمهملة”، ذلك أن نظرية الاستيطان والتوسّع الصهيوني توصي بألا تقام مظاهر التطوير فوق الأراضي المطورة.
ومنذ عام 1948، عدّت “إسرائيل” وجود العرب في الأراضي التي تحتلها خطراً عليها، فانتهجت حيالها استراتيجية استهدفت الاستمرار في الإرهاب والتمييز العنصري لإجبار الفلسطينيين على الرحيل وإفراغ الأرض من أهلها الشرعيين، وتبعاً لذلك حاكت عمليات تهجير واسعة “ترانسفير” لعرب عام 1948، عن مدنهم وقراهم، فأصدرت التشريعات التي تخدم وتعزّز عملية الاستعمار الاستيطاني وتبنى على التفوق العنصري كون العرب أغياراً، فلجأت إلى اتخاذ إجراءات قانونية للتخلص من السكان العرب الأصليين وتغييبهم، ومن هذا الأساس انطلق الهيكل القانوني لـ”إسرائيل” التي عبّرت عن نفسها من خلال بنية متكاملة من القوانين مثل: قانون العودة، قانون الجنسية، قانون توزيع السكان، قوانين الأراضي، قانون المستوطنات الزراعية، قانون استغلال الأراضي البور، قانون الاستيلاء على أراضٍ في حالة الطوارئ، قانون استملاك الأراضي، قانون مرور الزمن، قانون تركيز الأراضي، قانون الأحراج، قانون البناء والتخطيط وغيرها من القوانين العنصرية، وهي جميعها تهدف إلى اغتصاب الأراضي العربية وانتزاعها من مالكيها العرب، وطرد المالكين منها حتى تمكّنت من تجريد العرب من نحو مليون دونم من أخصب أراضيهم، وكان آخر القوانين في هذا المجال قرار تطوير الجليل الذي صدر عما يُسمّى مجلس وزراء “إسرائيل” بعد أن زادت نسبة سكان العرب فيه عن 50 بالمئة.
وعلى خلفية هذا القرار واستمرار المصادرات والتهويد تشكّلت في منطقة الجليل “لجنة الدفاع عن الأرض” التي اتخذت عدداً من القرارات كان أبرزها الدعوة لعقد مؤتمر شعبي للمطالبة بوقف المصادرة، وإصدار نداء إلى الرأي العام لحثه على مقاومة المصادرة ودعت اللجنة إلى اجتماع آخر في الناصرة يوم 6/3/1976 دعت إليه نحو عشرين رئيساً من رؤساء المجالس المحلية، واتخذ المجتمعون قراراً بإعلان الإضراب العام يوم 30/3/1976 استنكاراً لمصادرة الأراضي العربية.
وقرار الدعوة إلى إضراب عام لعرب الداخل يعدّ أوّل قرار من نوعه منذ النكبة، إذ ظهر الشعب الفلسطيني كشعب منظّم، استوعب فيه أبعاد قضيته الأساسية ألا وهي قضية الأرض، وبدأت الجماهير تحضّر لذلك اليوم التاريخي، ولم تكن تمتلك من السلاح سوى الإيمان والعزيمة، وقد استجابت كل التجمعات العربية في الجليل للإضراب على الرغم من المحاولات الإسرائيلية لإفشال هذا اليوم وبأيّ ثمن، فعمدت سلطة الاحتلال إلى منع حدوث هذا الإضراب عن طريق التهديد بقمع المظاهرات والعقاب الجماعي، وعزّزت قوات القمع والتنكيل في القرى والمدن العربية للردّ على الإضراب والمظاهرات، وقامت قيادة الهيستدروت بتحذير العمال وتهديدهم باتخاذ إجراءات انتقامية ضدّهم، وقرّر أرباب العمل في اجتماع لهم في حيفا طرد العمال العرب من عملهم إذا ما شاركوا في الإضراب العام في يوم الأرض، وكذلك بعث المدير العام لوزارة المعارف تهديداً إلى المدارس العربية لمنعها من المشاركة في الإضراب.
بدأت الأحداث يوم 29/3/1976 بمظاهرة شعبية في دير حنا، فقمعت هذه المظاهرة بالقوة، وبعد ذلك خرجت مظاهرة احتجاجية أخرى في عرابة، وكان الرّد أقوى، حيث سقط خلالها عشرات الجرحى وشهيد واحد، وما لبثت أن اتسعت دائرة المظاهرات والاحتجاج وامتدّت إلى جميع المناطق العربية في اليوم التالي 30/3/1976، على الرغم من جميع الإجراءات الصهيونية القمعية وأساليب التهديد، وخلال المواجهات في اليوم الأول والثاني سقط ستة شهداء.
وهكذا غدت الأرض ويومها رمزاً للبقاء والكيان والهوية، كما أحدث يوم الأرض تغييراً مهمّاً في نظرة العرب الذين تجاهلوا تماماً فلسطينيي الداخل وطالما اعترت معاملتهم لهم بالريبة والشكوك والأفكار الجاهزة، ولكن عقب ذاك اليوم النضالي المشهود بدّل العرب هذه النظرة فانفتحت أمام عرب الداخل الأبواب العربية على المستويين الرسمي والشعبي.
سيبقى يوم الأرض منطلقاً جديداً لوحدة جغرافية وسياسية للشعب الفلسطيني وتأكيداً لإصراره على التحرير والاستقلال وتشبّثه بأرضه ووطنه، ويستمرّ الشعب الفلسطيني صامداً ضدّ الحصار المفروض عليه من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية، ويستمرّ في مقاومة محاولات تهويد القدس ومصادرة الأراضي لبناء المستوطنات وجدار الفصل العنصري.