مجلة البعث الأسبوعية

الوافدون إلى مصياف نقلوها من مدينة تصدر المنتجات الزراعية إلى مدينة تضم أكثر من 25 ورشة

 البعث الأسبوعية – مادلين جليس

“عندما أتيتُ إلى مصياف أوّل مرّة لم يكن ليخطر ببالي أبداً أنّ الساعتين اللتين رصدتهما للبقاء في هذه المدينة وإنجاز ما كان لديّ من أعمال فيها، سيمتدان سبع سنوات. لكنّ الحرب دمّرت منزلي وورشتي, واضطرّتني لأكون في مدينة أخرى غير مدينتي “حلب”. الآن وبعد سبع سنواتٍ قضيتها في مدينة مصياف، بتُّ أشعر أنّني جزءٌ من هذه المدينة وأنّها أيضاً جزءٌ مني. أتمنّى العودة إلى حلب، لكنّ قرار مغادرة مصياف وترك أهلها، وورشتي واسمي الذي بنيته على مدار السنوات السبع، ليس بالأمر السهل”.

يختصر عبد الرزاق شيخ العشرة، صاحب ورشة لتصليح السيارات في حلب سابقاً، وفي مصياف حالياً، قصص مئات بل آلاف الوافدين إلى مصياف خلال سنوات الحرب، ممن وجدوا في هذه المدينة وأهلها السند والداعم الحقيقي لهم.

نتنقّل بين أسواق وشوارع مصياف، تصادفنا قصص كثيرة، وأناس كثر من مختلف المدن والمناطق السورية، تدلّل عليهم في أغلب الأحيان لهجاتهم السورية المتنوعة، فالرقاوي والحلبي والإدلبي والديري والدمشقي، كلهم في نسيج اجتماعي جميل.

تحديات وفرص

تغيرت مدينة مصياف خلال الحرب، فهذه المدينة التي شكّلت محور النّشاط الاقتصادي والتجاري مع الرّيف المحيط فيها، والتي اقتصر نشاطها بشكل أو بآخر على تلبية متطلبات الإنتاج الزراعي لمنطقة مصياف وما حولها، وجدت نفسها مع بداية الحرب أمام تحدياتٍ من نوع جديد وأمام فرصٍ جديدة أيضاً، أحد أهم هذه التحديات كان خسارة الكثير من شبابها الذي كانوا عماد الحراك الاقتصادي، والذين شاركوا في الحرب على مختلف الجبهات.

يضاف إلى ذلك أعداد كبيرة ممن وجدوا في الهجرة خارج سورية أحد خياراتهم هرباً من الواقع المتردي على مختلف الأصعدة، بالمقابل شكّل الوافدون فرصة مهمّة لهذه المدينة، فقد استطاعت من خلالهم تعويض نقصها في الكوادر البشرية من جهة، ومن جهة أخرى غيرت في شكل النّشاط الاقتصادي والتجاري لها بشكل كبير.

بذلك انتقلت مصياف من مدينة تصدر المنتجات الزراعية فحسب، إلى مدينة تضم أكثر من 25 ورشة، تنوعت بين الخياطة وتصنيع الأحذية وتصليح السيارات والدهان والبناء وغيرها.

خبرات متنقلة

نقل عدد من الوافدين ورشهم من مدنهم الأصلية، كورش الدهان وتصليح السيارات والخياطة وصنع الأحذية، والبناء، وغيرها، مثلما هو الحال مع هاشم، صاحب ورشة للدهان والنجارة ومواد البناء، الذي نقل ورشته من حلب إلى مصياف، بعد لجوئه إليها منذ عام ٢٠١٢ مع عائلته، واستقراره فيها، حتى إنه بدأ بتعليم الكثير من الشبّان الراغبين في امتهان هذا العمل من أبناء المدينة أو من الوافدين على حد سواء.

إن جاز القول، لم يكن المجتمع المدني في مصياف بعيداً عن هذا المشهد، إضافة للجمعيات والمنظمات سواء التي كانت ناشطة في المدينة قبل الأزمة، أو التي نشأت خلالها، فقد استطاعت أن تقرأ في هؤلاء الوافدين أنهم واحدة من الفرص الأساسية، وهذا ما دلّت عليه برامج التدريب المهني، والدعم المباشر وغير المباشر الذي قدمته الجمعيات والمنظمات، لتمكين أصحاب الورش من إحياء ورشهم، أو البدء بنشاطهم الاقتصادي من جديد.

شيئاَ فشيئاَ بدأ الانتعاش في المدينة نتيجة هذه البرامج والمشاريع، وبدأت مصياف  بالتحوّل إلى مركز تجاري واقتصادي مهم، وساهمت أكثر في إدماج الوافدين في نسيج المجتمع المحلي فيها، وبالتالي تعزيز نظرة المجتمع المحلّي في المدينة لهؤلاء الوافدين على أنهم فرصة حقيقية.

نساء الحرب

حتماً لم تكن المرأة غائبة عن هذا المشهد، لاسيما وأن مجتمع مصياف متقبّل لحضور المرأة إلى جانب الرجل في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فها هي ريمان المصري، في بيتها الصغير المتواضع الذي يشي بحالة سكانّه، تخبرنا قصّة جديدة من قصص التغريبة السورية، وهي التي اضطرت مع عائلتها أن تترك بيتها وحياتها الجميلة في داريا في دمشق، لتنتقل وتعيش هنا في مدينة مصياف منذ ما يقارب ثماني سنوات. وتقول ريمان: لم أكن أعرف مصياف قبل الحرب ولم أزرها من قبل، لكنها كانت الخيار الأقرب، حيث أنّ أقربائي وجيراني في الحي قدموا إليها مسبقاً، ووصفوا لنا الحياة فيها، ولكن بمجرد وصولنا إليها، اكتشفنا أّن الأمر ليس سهلاً كما ظننا.تتابع: في بادئ الأمر حاول زوجي البحث عن عمل يكفي لسدّ الحاجات المتزايدة والأعباء المالية المرهقة. وعلى الرّغم من تقبل زوجي لفكرة عملي، إلّا أن الالتزامات المتزايدة في المنزل لم تساعدني على إيجاد فرصة عمل مناسبة، الأمر الذي دفعني للعمل من المنزل،شجعني في ذلك الدعم الذي كان يقدم من الجمعيات والمنظمات الدولية في دورات لها علاقة بالموضوع. زاد الأمر صعوبة بعد استشهاد زوجي حيث وجدت نفسي في مدينة بعيدة وأم لثلاثة أطفال، أتحمل أعباء هذه الأسرة لوحدي، لكنّني بالمقابل وجدت الدّعم والسند من سيدات مصياف اللاتي تشاركن معي نفس الوجع، ولذلك فقد ساعدنني في تصريف ما أصنعه من حلويات، سواء من خلالهم أو من خلال دلالة المحيطين بهم إلى عملي.

خطاب ديني داعم

يذكر مختار المدينة القديمة غياث الملوحي حالات كثيرة عن اندفاع أهالي المدينة لمساعدة الوافدين، فمن كان لديه أرض أو مكان فارغ كان يترك مفتاحه لدى المختار، ليستطيع من خلاله تأمين مكان للعائلات المهجرة. جاء بعدها الخطاب الديني ليكون داعماً أساسياً لهذه الجهود المجتمعية، فرجال الدين من مختلف الطوائف لعبوا دوراَ إيجابياَ في تحفيز الناس على تقديم كل أنواع الدعم للوافدين، وتقبلهم والانفتاح أكثر للتعامل معهم اقتصادياً واجتماعياً.

العودة… أم البقاء

يقف أغلب الوافدين أمام مفترق طرق، إما البقاء في هذه المدينة التي تقّبلتهم وقدمت لهم المساحة الكبيرة من العمل، وإما العودة إلى مدنهم والمساهمة في نهوضها وإعادة النشاط لها، لذلك فإن قرار العودة كان قراراً تحكمه العديد من الظروف والعوامل، التي تتمثّل في قدرة هؤلاء الوافدين على ترميم منازلهم وورشهم أو محالهم. إضافة إلى ذلك يجد الوافدون عوامل أخرى تشجعهم على البقاء في المدينة منها نشأة أولادهم وانخراطهم فيها، حيث أنهم أصبحوا جزءاً من نسيجها المجتمعي المتكامل، خاصة من خلال علاقات المصاهرة الكثيرة التي تمت بينهم وبين الأهالي.

كل مدينة.. مهنة

نقل الوافدون إلى أهالي مصياف ثقافة جديدة لها علاقة بالمهنية والحرفية وأنماط جديدة من المهن والصناعات التي أخذت تزدهر في الوقت الذي كانوا فيها في السابق يضطرون للذهاب لمدن أخرى كمحردة وحماه لتلبيتها، ولعلّ تحديد الوجهة التي قدم منها الوافدون يعطينا انطباعاً واضحاً عن مهنهم التي عملوا فيها. فالعدد الأكبر للقادمين من إدلب عملوا في الزراعة في تقليم الأشجار، وقطاف الزيتون، وفي البساتين، مع عدد قليل ممن عملوا في الصيانة الالكترونية. أما القادمين من حلب فمهنهم الخياطة، ورش الدهان، تبليط، وغيرهم عمال عاديين، وهناك من أقاموا ورش منها ورش لتصنيع الأحذية وورش للخياطة. في حين أن القادمين من داريا عملوا في أغلبهم في النجارة.

لا بيانات ومؤشرات صريحة

كان من الصعوبة علينا خلال إعداد هذا التقرير الحصول على بيانات حكومية دقيقة عن أعداد الوافدين وشكل النشاط التجاري الخاص الذي نشأ في مدينة مصياف، فكل البيانات الحكومية تبتعد كلّ البعد عن هذا الشأن، ولا تتعدى معرفة عدد الصناعيين الموجودين في المنطقة، الممنوحين تراخيص، قبل الأزمة وخلالها، دون التطرّق إلى تأثيرات الأزمة. وحسب ما يؤكد حسين موسى الموسى مدير الصناعة في محافظة حماه فإن عدد التراخيص الممنوحة في المنطقة لنهاية العام  وصل إلى ١٠٣٩ترخيصاً بكلفة استثمارية قدرها ٦٥٦ مليون ليرة. وتقسم هذه التراخيص إلى ١٩٨ منشأة صناعية و٨٤١ حرفة صناعية. وخلال الفترة الممتدة من عام ٢٠١١ وحتى عام ٢٠٢١، ونتيجة قلة تأثر المنطقة بالأزمة واعتبارها منطقة آمنة، فإن القطاع الصناعي لم يتأثر كثيراً بتداعيات الأزمة، حيث تشير البيانات الرسمية إلى أنه تم خلال الفترة المذكورة منح ٢٧٥ ترخيصاً لمنشآت وحرف صناعية متنوعة بكلفة استثمارية قدرها 15 مليار ليرة، من شأنها بحسب الجدوى الاقتصادية لها توفير ٩١٣ فرصة.  توزع هذه المنشآت والحرف واختصاصها يؤشر إلى تأثير الأنشطة الاقتصادية لبعض الوافدين على تركيبة التراخيص الممنوحة، والتي تقسم إلى ١٥٧ منشأة صناعية متخصصة في مجالات كالعلف، الأجبان والألبان، عصر الزيتون، منشآت الخزن والتبريد، نشر كتل الرخام والأحجار، المنظفات والشامبو، والبلاستيك، إضافة إلى ١١٨ ترخيص حرفي متنوع في مجالات صناعة الحلويات، جرش العلف، تعبئة الحبوب، البلوك، البلاط وقص الرخام، الليف المعدني، فحم الأراكيل، المنظفات، والألبسة الجاهزة، وغيرها.

أما عن توزع التراخيص على القطاعات في منطقة مصياف، فيذكر رئيس غرفة صناعة حماه زياد حربو أن ٢٦٦ ترخيصا ذهبت إلى القطاع الغذائي، كمعاصر زيتون، برادات تخزين خضار وفواكه، معامل بسيطة لصناعة المربيات والبسكويت. إضافة إلى ٢٩ ترخيصاً للصناعات الكيميائية، أغلبها متخصصة في صناعة المنظفات والبلاستيك، وهناك ٢٦ ترخيصا في القطاع الهندسي من ضمنها مقاطع الحجر الرخامي والكلسي. وترخيصان فقط للقطاع النسيجي.

أخيراً

يمكن لنا أن ننظر إلى الهجرة الداخلية باعتبارها واحداً من أكبر التحديات التي تواجهنا الآن، لاسيما في ظل نضوب الموارد والقدرة على تأمين الخدمات وتلبية الاحتياجات المتزايدة، وتأثير ذلك سلباً على المجتمعات المضيفة، لاسيما في المحليات خارج المدن الرئيسية الكبرى -كما هي الحال في مصياف-  لكننا أيضاً نستطيع، ويجب أن نعيد قراءة هذا الواقع بعين من يبحث عن الفرص، ويمتلك الرؤية والإرادة لكي يعظم الاستفادة منها.