الومضة الفنية تجدد أفعال القيمة
البعث الأسبوعية-رائد خليل
تنصاع مفردات الفنان في رسومه لذاتية تتمحور حول التقاط الممكن.. فمن حيوية التشبث بروابي التكوين الأولي إلى فهم الحاضر المفعّل بطريقة منتشية وبحركية تجمع عناصر التكوين الناضج.
تتماهى دقائق البوح عند الفنان مع هيبة المعطى الجمالي.. فاتحاً باب التجريب من انزياح أسراب المفاهيم وإطلاقها.
الانسجام النابع من مسرة أناه المتكلمة الدالة على الوجود، يأتي تأكيداً على دور الترابط مابين المتن والطروحات.
يأتي التشخيص في أغلب الرسوم كمتعة مؤنسة، يواكبها انزياح الصور برغبة تدخل القارئ المتلقي في أروقة البيان.. والبحث عن سياقات رمزية يشعل فيها همّة القول بأناه المتجددة في كل عمل مذيّل بالغواية.. حيث يطوف بها في مدار الحلم والتجلّي وخوابي الاستمتاع.
ويأتي التوصيف الدقيق في كثير من الحالات كرافعة للصورة الذهنية.. لا تخلو من جدلية ومباغتة العادي وانفلات يقودنا إلى مطلب الروابط والتدرجات المزهوة بجوهرها التي تهيئ الإطار العام للفكرة المراد أنسنتها..!
في الأبعاد الفنية مخزون تأملي بنيوي قوامه التقنيات المنتقاة في البناء والوحدة النصية.. وأفكار مستقلة بحماستها الدلالية، تنطوي على فطرة و”كمشة” فيوض تعيد رسم المكان بفتنة التجديد.. وتزركش الخطا بأثواب منطوقة ضمن مرجعية اللغة اللونية أو التقنيات الواثقة..!
إذن، يحاول الفنان المتمكن من أدواته أن يضع عناوين شغفه بخطوط لا تخلو من العفوية على مساحة التذوق والتعايش مع الحالات.. ليترك الصيغ المنطوقة تأخذ امتدادها في جلاء القول ورعشة البوح..!
ويعتلي المعنى عصارة القول في سرديات الحالة الفنية التي تتناغم ومساحات المضامين.. هي المناسبة وإحياء اللازمة.. مغامرة استدلال على حافات الترقب.. تأخذنا إلى ماهية الذات الحرة.. أو ربما إلى القول المنصهر في مرجل اللحظة القابضة على جمر اليقين.. فيستدعى المتخيل إلى واحة الدراية والانتقاء والاصطفاف دون تدوير واستطالة.. إلا في حالات تتسمر فيها كثافة الحالة عند حدود “الزمكان”..!
يرى المنجز المصاحب لذات الفنان قول النبض.. وحرية الشكل والمضمون في فضاءات تجعل الاختزال بادرةً مسنبلةً في حقول التنوع.. وتصريحاً بليغاً يستنبط جماليات الأشياء في سرمدية مفتوحة تعقبها نقاط الكمال والولادة لذوات مضيئة بالوله والإنشاد.
سؤال الومضة.. يأخذ بأيدينا في جهات التأويل الممكن.. إذن هي حكائية تشي بأرضية معجونة بتلاوين الوقع والاستمالة نحو (بوهيمية) المراد ورسم ملامح صعوده وتحليقه.
أسئلة كثيرة رغم قلة الأصيل المرسوم والمنطوق.. هذا يعني أن الأجوبة المشتهاة لا تقف على جرف الدلالة وتجلياتها، بل سعي حثيث لخلق متخيلٍ جديدٍ من كشوفاتٍ تفتح حواكير المرئي في مغامرات واستعارات وتنصيص يعيد ألق المساحة وأقاصيها الحاذقة.
إذن، هو صوغ والتقاط مسميات تتوالد بنزعة الذات أولاً.. وتتقاطع ومبررات الوجد (انطولوجيا المعنى) وكثافة اللون بكل ذرائعيته ثانياً.
الومضة الفنية تجدد أفعال القيمة.. وتراهن بسردها العميق المختزل على المجال البنيوي وترتق المضامين بخيوط ماطرة على يبابِ ما يُقدَّم.. يعني أنَّ المفردات تقطف في أجواء ناضجة بعد مزاولة طقوس الاعتناء اللغوي والنزوع نحو تناغم وتلاقح التوليف والبيان.
الخروج عن المألوف
تحتكم الرسائل الفنية للمخزون المعرفي والموروثات الذاتية منها والجمعية في رحلة التحول من مفردات باتت بائسة إلى نتائج بنيوية استفاقت بصدمات “كهروفنية” تحريضية لم تُعِقْ ذاتية التجريب، بل أعادت نبض الخلق مجدداً.
الفن، انفلات من إطار موسوم بتكشيرة رمزية لا تأبه للأبعاد.. تكشيرة تعيد الاختلاط المقعّر.. وتسمح للزوايا بتدوير نفسها.. كخروج عن المألوف، وتنبثق الحالة أحياناً من ذاكرة “زمكانية” وفق آلية استرجاع الصور بخصوصية إنتاجية جديدة دلالية.. ترتقي بسموٍّ إلى جدارية تُقرأ بعين قابضة على رؤى وآفاق لا تخلو من التمرد الذهني والتماهي مع مكونات وأغراض تستند إلى الحسّي.. وتلامس غير المتوقع، بمشهد لا يخلو أيضاً من ضجيج وحماسة كأي اختراق يقف على ناصية دفاقة بالتناص.. والاستجابة لمراجع النظائر وفق مقارنات باتت مساطر لقياس التجارب.
هنا، تتضافر جهود الفكري والنسق الدلالي الحسّي في ترتيب النص الفني ووحدته البنائية دون إغلاق الباب أمام التقويم المغاير.
النسيج الفني، حياكة إشراق وتصور المعقول، إيحاء وحافز، توصيف يبرم عقد الثنائيات المتخيلة في صراع بدأ تاريخياً بين الأسود والأبيض.. وصولاً إلى عناقيد لونية تستظل بصميم الحياة.. ومقابلات وأنساق تعيد وهج الأبعاد، وتعيد طرح الممكن كهاجس انفتاحي ليرتقي المعنى أكثر.
وما أكثر لملمة الجهات.. أفعال يرتكبها الفنان الناجي من خراب متوارث أحياناً، ومن تابوات أفقدت الروح بوصلة الأمان.
ولكن، تبقى الحالة تتكئ على التصور في تلازم ممزوج بين الفنان وقيمة التجربة.. دون تجنيد المفردات.
يقول أبو القاسم الشابي في إحدى رسائله: “إنَّ الفنان يا صديقي، لا ينبغي أن يصغي لغير ذلك الصوت القوي العميق الداوي في أعماق قلبه.. أما إذا أصغى إلى الناس وما يقولون، وسار في هذه الدنيا بأقدامهم.. ورآها بأبصارهم، وأصغى إليهم بآذانهم، فقد كفر بالفن وخان رسالة الحياة..”.
إذن، هو النداء الناظم الذي يتأتى من حرية الاختيار أولاً، ثم من النطق بدءاً بالتجريد وصولاً إلى الإطار الشكلي وسياقات التوليف والتأليف.. نداء واسع الطيف يفرد بساطه على محمل الـتأمل.
أما خيانة النص، فهي تحدٍّ موصوف لضربات الحبر وذاكرته، أو الطيف النفسي.. وهذا ما يُربك عصب الوحدة النصية في اللوحة التشكيلية ، ويجعل الغموض عنواناً مُربكاً.!
تختلف التوصيفات في فهم النص الفني.. قد يكون المبرر مستنداً إلى قرائن وضوابط.. وقد يكون العكس هو الصحيح كحالة مستقلة يرى صاحبها أحقيته في طرح مفاهيم جديدة بانزياحات مغايرة، فيها من الحيوية ما يكفي لبناء منظومة مرجعية يتقاسم فيها الطرفان متعة القراءة المعتقة.
أسباب كثيرة أصابت آلية التفسير بالصدأ.. وبقي التمايز عنواناً للمثول أمام محاكم الرؤية والرؤيا.. فهناك من يطارد الجديد ويلقي عليه اللوم، كي لا يخرج من وراء قضبان الطروحات السابقة.. وهناك من ألبس الممكن ثياباً تليق بالمعقول..!
إذن، يبدو أن مفهوم “غرامشي” في مقولة : “كل الناس مثقفون”، أتت لتعيد رسم الدوافع النفسية في قراءة المحيط.. فما بال المتلقي الفني الذي حولته المتابعة إلى مخزون ناهض بالمعرفة والمجالات كافة.. مزركشاً باستعارات نتاج السابقين..؟
تتفاعل المكونات في مناخ يبعث على القلق في أغلب الأحيان.. وينعكس على القابلية والذائقة في مسألتي الاقتناع والقبول..!
أصبح واقع المضامين عسير الأسباب، لا يخلو تفسير من بعض الأشواك.. هي غير الأشواك التي علّمت الفيلسوف “طاغور”.. فحتى الركام منحوه الصفات.. وشرحوا النقطة وفلسفوها.. فباتت اللوحة تعاني الأمرّين.. من حواملها، ومن تأطير ممنهج وصل إلى ذائقة المتلقي..!
نحن الآن أمام ظواهر فنية متعددة الأهواء، تلعب الريح أحياناً دوراً كبيراً في استمالة اللون وتركيبه.. وتلعب أغراض أخرى دوراً تقدمياً بتواترٍ حذرٍ يريد شرعنة الجديد دون المساس بأثواب الأقدمين.
ولكن مهما تكن الثغرات في المقدَّم حالياً.. يبقَ الدفاعُ عنه حقاً مشروعاً..!