مجلة البعث الأسبوعية

“الهدية” .. فيلم قصير يروي القصة الكاملة لما يعنيه أن تكون فلسطينياً

البعث الأسبوعية” ــ المحرر الثقافي

“الهدية” فيلم فلسطيني من إخراج فرح نابلسي، يتصدر دور البطولة فيه الممثل صالح بكري. رُشح الفيلم لنيل جائزة الأوسكار عن فئة الأفلام القصيرة، لكنه لم يفز بالجائزة رغم أنه كان يستحقها. وفي كلمته أمام الجمهور، قال الممثل ترافون فري، الذي فاز بالجائزة عن فيلمه “غريبان بعيدان”: “إن أكثر الأشياء التافهة هي أن تكون شخصاً غير مبال بألم الآخرين”.

تبلغ مدة فيلم “الهدية” حوالي 23 دقيقة، لكنه يختصر مجمل قضية فلسطين والتجربة الفلسطينية، ويظهر اللامبالاة السائدة تجاه آلام الفلسطينيين.

يحمل الفيلم عنوان “ذا بريزنت” الكلمة الإنجليزية التي تحتمل معنيين “الهدية” و”الحاضر”؛ وتقول المخرجة إن ازدواجية المعنى مقصودة، وهو ما أرادت نقله في العنوان وفي الفيلم نفسه.

وقصة الفيلم بسيطة جداً، بل ربما أبسط مما يمكن لأحد أن يتخيل: يستيقظ الأب يوسف (يؤدي دوره الممثل صالح بكري بشكل مقنع)، في الصباح ويأخذ ابنته ياسمين (تؤدي دورها بشكل جميل مريم كنج) لشراء هدية لزوجته في عيد زواجهما. انطلق الاثنان بسعادة لشراء الهدية ومفاجأة الأم، لكنهما فلسطينيان يعيشان في فلسطين المحتلة، وبالتالي لن يُسمح لهما بالتمتع حتى بأبسط الأشياء.

كانت الرحلة قصيرة إلى المتجر، لكن العودة كانت مليئة بالإهانات والإذلال اللذين يشكلان جزءاً من الحياة اليومية للفلسطينيين. تُفرض هذه الإهانات على الرجال والنساء وحتى الأطفال؛ وحتى الأب الذي يريد مرافقة ابنته في يوم خاص يُحرم من هذه المتعة لأن فلسطين محتلة ويحكمها نظام متطرف وعنصري لا يرحم، ولا يبالي وحسب بمعاناة ومشاعر الفلسطينيين، بل يذلهم ويجعل حياتهم غير قابلة للعيش. وأي شخص زار فلسطين سيرى نقاط التفتيش موزعة على الطرقات؛ وحتى هذه الطرقات نجد التمييز، حيث يوفر مسرب واحد منها، هو عادة الجزء الأوسع، عبور اليهود السهل وبحرية مطلقة، بينما يتعين على الفلسطينيين المرور عبر مسار ضيق ونقطة تفتيش متشددة حتى الإذلال. ويسير اليهود أو يقودون سياراتهم بحرية، فيما يجري إيقاف الفلسطينيين وإبراز بطاقات الهوية الخاصة بهم، وغالباً ما يتم احتجازهم بشكل عشوائي لساعات، وفي بعض الأحيان يتم قتل البعض منهم.

إن الذل والإهانة والخوف جزء من الطريق الذي يجب أن يمر الفلسطينيون من خلاله، والجنود ومسؤولو الحواجز الإسرائيليون الذين يديرون نقاط التفتيش يعرفون أن الأمن ليس هدفهم، بل الإذلال واستعراض القوة.

في فيلم “الهدية”، يغادر الأب وابنته منزلهما الواقع على مسافة قريبة من الحاجز للذهاب إلى المتجر، وبينما يقفان وينتظران، تمر سيارة على متنها إسرائيليون حيث يحييهم الجنود بابتسامة.. هذا السلوك يعاينه كل من يزور فلسطين المحتلة، ولآلاف المرات، عبر نقاط التفتيش.

لأسباب خارجة عن الفهم، قرر الجندي عند هذا الحاجز إخراج يوسف من المسرب وإجباره على الجلوس والانتظار في قفص أشيد بجوار الطريق، ما يعني أن على الإبنة الصغيرة أن تجلس خارج القفص وتنتظر أيضاً، لأنه لا يوجد مرافق لها. وهذا هو الحال دائماً: لا أحد يهتم بما يحدث للفلسطينيين، أطفالاً أم بالغين.

أخيراً، غادر الأب الحاجز والطفلة الصغيرة تتأرجح خلف والدها أثناء سيرهما إلى محطة الحافلات. يستدير يوسف ليرى لماذا تمشي ابنته ببطء، ليدرك أنها محرجة، وغير مرتاحة، لأنها بللت سروالها. يوسف يحتضن ابنته، ويحاول مواساتها في لحظة الخزي وعدم الراحة هذه. وكان عليهما أن يستقلا الحافلة هكذا حتى يصلا إلى المتجر، حيث يكون قادراً على شراء ملابس جديدة لها، وفي النهاية “الهدية” التي ذهبا لشرائها لوالدة ياسمين.

 

ألم في الظهر

هناك حاجة إلى مسكنات الألم باستمرار لأي شخص يعانى من آلام الظهر المزمنة الحادة. يمكن أن يرتبط هذا الألم بهذا الفيلم بشكل ملفت للنظر، فيوسف يعاني من آلام ظهر رهيبة، ونراه في المشهد الأول يتناول أدويته، ثم تسأله زوجته عن حال ظهره فيجيب: “متل كل مرّة”.

علاوة على الإهانات والإذلال والخوف الدائم من الجنود والسهولة التي يستخدمون بها أسلحتهم ضد الفلسطينيين، يكافح يوسف مع هذا الألم المستمر. لم يكن يتوقع أن تدوم رحلتهما كل هذا الوقت الطويل، وبالتالي فهو لم يكن قد أحضر معه أدويته عندما أصيب بالألم. هو لا يقول شيئاً عن ألامه، لكن تعابير وجهه تقول كل شيء.

في المتجر، يسأل يوسف عن سبب إغلاق الصيدلية المجاورة – قيل له إنها حادثة وفاة ألمّت بالأسرة – ما يعني أن الألم سيلازمه، ولم ينته اليوم بعد.

يشرع يوسف وياسمين في شراء الهدية والعودة إلى المنزل، لكن في الطريق لا يزال يتعين عليهما عبور الحاجز، الحاجز نفسه الذي اعتقل الأب بطريقة مذلة أمام ابنته الصغيرة. ومع حلول المساء، تعود الذكريات، يتذكر يوسف الجنود الذين يضايقونه مرة أخرى دون سبب، وبألم جسدي وعاطفي مبرح.

أثناء العودة، قام أحد جنود الحاجز بتشبيهه لشخص قابله ذات مرة على نقطة تفتيش في الضفة الغربية. كان الجندي الشاب أبيض اللون – كما هو البياض الأوروبي – وله لحية. لم يكن طويل القامة وكان يرتدي خوذته ومسدسه بطريقة خرقاء.. ولأنه كان يملك القوة فقد كان يتصرف بعجرفة.

في “الهدية”، كما هو الحال في جميع أنحاء فلسطين، يتمتع الجنود وضباط الشرطة والشرطة السرية أو عملاء الشاباك بالسلطة المطلقة – بل ويتلقون التعليمات – لمضايقة الفلسطينيين وإذلالهم وإزهاق أرواحهم بطريقة تعسفية للغاية. ولقد أعطت فرح نابلسي وصالح بكري لمحة للعالم عن يوم في حياة فلسطيني، وطرحت سؤالاً: إلى متى سيبقى العالم غير مبال؟

 

جيل جديد

بعد قليل من الانتفاضة الفلسطينية في التسعينيات، توقفت المخرجة البريطانية الفلسطينية فرح نابلسي عن زيارة الضفة الغربية التي تنحدر منها عائلتها. وبعد خمسة وعشرين عاماً، عادت لتجد واقعاً جديداً ألهمها فكرة الفيلم.

تشير فرح إلى نقاط التفتيش العديدة التي أقامها الجيش الإسرائيلي، وكذلك الجدار العازل في الضفة الغربية الذي شرعت إسرائيل في بنائه سنة 2002 في ذروة الانتفاضة الفلسطينية، وهو ما تسميه “جداراً يقتلع الأرض وبيوت الناس ويمزق الأسر”.

هذه المشاهد، التي تحوي كل هذا الظلم، تراكمت أمامنا لتقدم أنموذجاً عن حياة يوسف وعائلته بشكل يومي، وأدت إلى انفجار يوسف في وجه الجندي في طريق العودة. والمفاجأة قدمتها الصغيرة ياسمين، عندما رفضت أن تنصاع للجندي الإسرائيلي، ودفعت الثلاجة “الهدية”، ومشت على الطريق المخصص للمستوطنين من دون أي خوف، بينما والدها يراقبها من وراء الشباك، ويقف الجنود مذهولين من فعلتها.

والفيلم مقتبس من أحداث حقيقية، لكن فرح نابلسي تقول إن بشاعة الواقع في بعض الأحيان تفوق بكثير قدرة الفيلم على التصوير: “رأيت هذا المشهد، وأحسست أن تفكيري أصبح في مكان مختلف، أكثر جمالاً وتفاؤلاً. بالنسبة لي، ياسمين هي فلسطين التي لن تموت، ولن تذل. ياسمين هي ذلك الرد في وجه من يقول إن الأجيال المقبلة ستنسى. ما دام هذا الجيل يشهد المعاناة ويعيشها، فستكون لديه وسائله الخاصة في الرد والتصدي وكسر هذا القيد”.

أضافت: “يوسف شاب أعرفه منذ سنوات، يعيش في الخليل.. يمكن القول إنه يسكن على الطريق بالمعنى الحرفي للكلمة، بسبب وجود نقطة تفتيش على بعد 80 مترا من منزله.. لقد كتبت الفيلم بناء على تجربتي الخاصة في نقاط التفتيش هذه، حيث راقبت الفلسطينيين الآخرين عندها وتحدثت مع أولئك الذين عليهم التعامل معها كل يوم. إن دراسة تأثير مثل هذه الأشياء على الروح البشرية، والضرر الذي يمكن أن تسببه للفرد والأسر والأطفال والمجتمعات العالقة في هذه البيئة المرهقة والمذلة عمداً، هو ما شدني إلى كتابة وإخراج هذا الفيلم القصير”.

وتتابع نابلسي: “حق الحركة هو واحد من حقوق الإنسان الأساسية، التي يعتبرها معظم الناس في جميع أنحاء العالم أمراً بديهياً – ربما حتى وقت قريب، بسبب قيود الحركة التي فرضتها جائحة كوفيد 19- ولكن عادة ما يكون الحق في التحرك كما نشاء في حياتنا اليومية، أمر لا يفكر فيه معظم الناس لأنه مفروغ منه ولكن بالنسبة للفلسطينيين، فإن هناك أكثر من 150 نقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية، ونحو 100 نقطة تفتيش أخرى متجولة (يمكن أن تظهر في أي وقت وفي أي مكان).. في فلسطين طرق منفصلة والتفافية، حظر تجول، حصار، جدار الفصل العنصري وما إلى ذلك”.

وتابعت: “لقد كتبت الفيلم بناء على تجربتي الخاصة في نقاط التفتيش هذه، حيث راقبت الفلسطينيين الآخرين عندها وتحدثت مع أولئك الذين عليهم التعامل معها كل يوم. إن دراسة تأثير مثل هذه الأشياء على الروح البشرية، والضرر الذي يمكن أن تسببه للفرد والأسر والأطفال والمجتمعات العالقة في هذه البيئة المرهقة والمذلة عمداً، هو ما شدني إلى كتابة وإخراج هذا الفيلم القصير”.

شاركت نابلسي وهند شوفاني في كتابة السيناريو، وتلك هي أول تجربة لنابلسي في عالم الإخراج، لكنها أيضاً هي التي أنتجت الفيلم، وكتبت قصته. وكان من الأفلام التي أعلنت الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم ترشيحها لجائزة الأوسكار في قائمة الأفلام القصيرة عن دورتها الـ 93. وقد وصل إلى هذه المرحلة المهمة بعدما حصد جائزتين هامتين هما: جائزة الجمهور في مهرجان كليرمون – فيران الدولي للأفلام القصيرة، وجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان كليفلاند السينمائي الدولي. وقد عرض الفيلم على منصة “نتفليكس” العالمية في شهر آذار الماضي.

“الهدية”، بكل بساطة، مزيج متوائم ومبدع من القصة القصيرة، والشخصيات الحقيقية، والرمزيات السريعة والمباشرة والذكية التي تقدم الواقع كما هو من دون أي إثارة أو تجميل.