تناثر أوراق الكتب المدرسية في الشوارع ظاهرة تشي بأن التعليم أضحى “كابوساً” لطالبيه..!.
لم يكن العام الدراسي الأول الذي يُعلن انتهاءه بارتداء الطرقات والأحياء في المدن والقرى ثوباً أبيض حيك من أوراق الكتب والدفاتر التي سهر المعلمون والتلامذة ليالي طويلة لإنجازها، لكن على ما يبدو كانت المرة الأولى التي سرقت انتباه أحد المارة ممن شعر بالغيرة على العلم والمناهج والطلاب، وما آل إليه حال التربية أولاً والتعليم ثانياً في مدارسنا، ليلتقط صورة لهذه الظاهرة التي وجدت بها صفحات التواصل الاجتماعي حديثاً على مدى يومين، تجلّى بسؤال: أين وزارة التربية من هذه الظاهرة؟!.
وبالطبع لم يأتِ أي تصريح أو تعليق أو تفسير من أي جهة مسؤولة عن هذا السلوك الذي سيتحوّل تدريجياً إلى ظاهرة خطيرة في حال تمّ السكوت عنها، وكأن شيئاً لم يحدث، لتعاود هذه الظاهرة الظهور مرة أخرى مع انتهاء امتحانات الشهادات الإعدادية والثانوية، ويتمّ طرح التساؤل نفسه، ويرافقه الصمت والنسيان نفسه إلى العام القادم!.
غياب العقوبة
حديثنا عن التجاهل غير واضح الأسباب من قبل الجهات المسؤولة عن هذه التصرفات اللاأخلاقية لم يكن وليد الصور التي انتشرت خلال الأيام السابقة فقط، بل إننا طرحنا موضوع تمزيق الكتب والدفاتر والمناهج الدراسية منذ أكثر من خمس سنوات، وقوبل الموضوع بالتجاهل عن أسئلتنا المطروحة وغياب دور وزارتي التربية والتعليم العالي عن وضع حدّ لمثل هذا الاستهتار بالتعليم، خاصّة وأن هذه الظاهرة لم تعد حكراً على طلبة المدارس، بل امتدّ عدم الوعي واللامبالاة إلى طلبة الجامعة ممن أنهوا مرحلة “الولدنة وطيش الشباب” وباتوا في مرحلة من المفترض أن تحمل بين طياتها البحث عن القراءة والمطالعة والتعطّش للثقافة، وهذا ما لم يعد موجوداً للأسف عند أكثر من 80% من الطلبة، وفق ما تحدث عنه الدكتور إياس اسكندر (علم اجتماع) مُلقياً اللوم على الأهالي أولاً ومن ثم وزارتي التربية والتعليم العالي الغائبتين كُلّياً عن فرض أي عقوبة رادعة لأي شخص يقوم بتمزيق كتبه العلمية التي تجهد الوزارات في كلّ عام لتأمينها للطلبة ممن تتعالى أصواتهم مع بداية العام الدراسي في حال لم تكن هذه الكتب موجودة بكاملها، وتكثر المناشدات لتأمينها للطلبة المتعطّشين للعلم في بداية العام والممزقين لها مع نهايته. ويرى اسكندر أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً كبيراً في خلق هوة بين الطالب والكتاب، ليجد الطالب في هذه الوسائل المتعة والتسلية هرباً من المناهج التي تُقدّم له بشكل مفروض وبطريقة مملة تجعل تمزيق الكتاب المدرسي بالنسبة للطالب نوعاً من الانتقام، يلجأ له كتعبير عن خلاصه من عام مثقل بالواجبات!.
جريمة بحق العلم
وفي محاولة خجولة منّا للاقتراب من الطلبة وقطع بهجتهم بتمزيق كتبهم فرحاً بانتهاء الكابوس الدراسي –كما وصفوه- وجدنا الحال نفسها عند أغلبية الطلبة ممن للأسف لم يصلوا حتى الآن إلى درجة الوعي والحفاظ على قدسية التعليم، إذ كانت إجابات الجميع تتقاطع عند الرؤية نفسها بعدم قدرة المناهج التعليمية في جميع الصفوف على تجاوز الروتين والحشو القسري في ذهن الطالب، فالتلقين والحفظ والبصم ومن ثم الإجابة على ورقة الامتحان “كالببغاء” هي حال أغلب الطلبة ممن لا يحالفهم الحظ في الاحتفاظ بالكمّ الكبير من المعلومات إلى الصف اللاحق، وبالتالي فإن اللوم الأكبر يقع على صعوبة المناهج، برأيهم.
في حين لم يُنكر محمد الضاهر (موجه تربوي) أن آلية وضع المناهج وعدم مواكبتها للتطورات الحاصلة تقود إلى نفور الطلبة وعدم تركيزهم، وبالتالي يكون هناك نوع من إجبار الطلاب على التعليم وتقديم الامتحان “كأداء واجب”، ما نلمس نتيجته على أرض الواقع بكتب ممزقة في الطرقات، وعلى الرغم من أهمية دور الأهالي أولاً في التربية والابتعاد عن الضغط على أبنائهم خلال العام الدراسي ومحاولة تقليل فترات جلوسهم على شاشات الأجهزة الإلكترونية، إلّا أن دورهم ما زال محصوراً في إلقاء اللوم على المناهج الصعبة، وعدم تسليم الكتب بسرعة مع دخول الطلاب صفوفهم في اليوم الأول، والإسراع إلى البحث عن أساتذة “خصوصي” لإرضاء أنفسهم بقيامهم بتأمين كافة متطلبات التعليم. واعتبر الضاهر تمزيق الكتب المدرسية والجامعية وقيام بعض الطلبة بدخول حرم المدارس والعبث بأثاثها وتكسيره خلال فترة الصيف جريمة بحق العلم يجب معاقبة مرتكبيها بعقوبات رادعة تحول دون تكرار هذه الظاهرة التي لا تُبشّر خيراً ببناة المستقبل، خاصّة وأن جزءاً لا يُستهان به من ميزانية الدولة يذهب لمصلحة طباعة الكتب وتوزيعها مجاناً أو بأسعار رمزية لا تعادل ربع التكلفة، ليُصار إلى تمزيقها في نهاية المطاف من قبل بعض الطلبة ممن افتقدوا أدنى مقومات التربية والأخلاق.
سلوك دخيل
ووجدت شيرين العبد (مديرة مدرسة) أن تمزيق الكتب المدرسية لا يمكن حتى الآن اعتباره ظاهرة، كونه لا يتعدى بعض الطلاب المستهترين بالعلم والمحاولين الإساءة للرسالة التعليمية في بلدنا، معتبرة أن هذا السلوك دخيل على واقعنا التعليمي الذي حافظ على تميزّه، وتبوأ مراكز عليا بين دول كثيرة، لكن ما حصل مع انتهاء هذا العام الدراسي والأعوام السابقة لا يمكن تجاهله وتركه يمرّ مرور الكرام دون متابعة حقيقية، وجهود يجب أن تُبذل وعقوبات تُفرض على عديمي المسؤولية من بضع طلاب يحاولون إفساد جيل كامل بنهج تعلموه من شاشات صغيرة وُضعت دون أي تفكير بعواقبها بين أيديهم من قبل ذويهم لإرضاء مواكبة أبنائهم لتطورات العصر واستيراد الظواهر السيئة بدلاً من الإيجابية وطرحها في مجتمعنا. واستنكرت العبد عدم مبالاة الطلبة وذويهم بالجهود المضاعفة التي قام بها عمال التنظيفات لإعادة نظافة الشارع وجمع قصاصات كتبهم ودفاترهم التي تباهوا بتمزيق أكبر قدر ممكن من مناهجهم التي تتكبّد وزارة التربية جهداً ومالاً على مدى عام كامل لتقديمها لهم. ورفضت مديرة المدرسة الحديث عن صعوبة المناهج التي تقود الطلبة إلى فعل الانتقام هذا، مشيرة إلى أن المناهج تتطوّر في جميع البلدان وتواكب التطورات العلمية والمعرفية التي تحصل، إذ لا يدّخر أي طالب جهداً في تعلّم أي لعبة صعبة ومعقدة على جهازه الذكي، في حين يجد صعوبة ويحتاج إلى أكثر من معلّم لتلقينه معلومة بسيطة ضمن منهاجه التعليمي، الأمر الذي يؤكد عدم شعور معظم طلبة هذا الجيل بالمسؤولية وأهمية التعليم والحفاظ على مقدسات العلم بدلاً من حرقها وتمزيقها.
إذاً هي ظاهرة خطيرة ومقلقة ترتقي إلى حجم الجريمة، كما قال البعض، وهذا بلا شك يستدعي تحركاً سريعاً من المسؤولين في وزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي، لجهة اتخاذ الإجراءات المناسبة لقمعها، والعمل على إيجاد خطط وحلول بديلة للحفاظ على هذه الكتب كعدم تسليم النتائج الامتحانية قبل تسليم الكتب، أو خلق “كروبات” مهمتها الطلب من الأهالي التبرع بهذه الكتب ليُصار إلى توزيعها على الطلبة غير القادرين على تأمينها في العام القادم.
ميس بركات