ثقافة

بعد أن قدم قصاً منفرداً ناظم مهنا: أطمح إلى أن أكتب رواية واحدة لا غير

يُتهم اليوم بالانعزال وعدم الظهور رغم اعتراف الكثيرين بأنه مبدع من نوع خاص ويستحق أكثر مما هو عليه إعلامياً ونقدياً، أما هو فيؤكد أنه منزوٍ وليس منعزلاً، فأصدقاؤه كثر ويتواصل معهم دائماً حتى في وحدته، ويكاد لا يشتاق إلى أحد منهم حتى يلتقي بهم، ويبيّن الكاتب ناظم مهنا في حواره مع “البعث” أنه ابتعد عن الصخب الذي عوَّضه بمزيد من القراءة.
بدايات مهنا -كعادةِ معظم كتّابنا- كانت مع الشعر، وقد عدَّه البعض في تلك الفترة شاعراً، وعلى الرغم من قوله في أحد حواراته أنه كان عليه أن يكون شاعراً إلا أنه غاب عن الساحة الشعرية منسحباً باتجاه عالم القصة، ليؤكد في حوارنا معه أنه لم يبتعد عن الشعر فهو قارئ يومي له تقريباً، وأصدقاؤه شعراء وشاعرات، معترفاً أن بداياته كانت في كتابة الشعر، ونُشرت له قصائد في الصحف والمجلات العربية، ولا يزال يحاول كتابة الشعر، لكنه سرعان ما يحوله إلى قصص، وقصصه لا تستطيع التخلص من تأثيرات الشعر، حتى أن أدونيس نشر له في “مواقف” قصة “زهرة الخوف” في باب ديوان الشعر، مشيراً إلى أن القصص تحتمل هذه الانزياحات بين التخوم والحدود، وتأكيداً على خصلة الشاعر فيه يذكر أن مجموعته القصصية الأولى “حراس العالم” تحضر فيها بكثرة جمل وإشارات شعرية لشعراء، وعنوان المجموعة بحد ذاته عنى به الشعراء تساوقاً مع مقولة هايدجر “الشعراء هم حراس الكينونة” رغم رومانتيكية هذه المقولة برأيه.
السخرية تعتمد على اليقين
وعن انحيازه للقصة القصيرة التي أصبحت فناً مخذولاً يبيّن مهنا أنه يعي أن القصة القصيرة لم تعد تلقى الاستجابة التي كانت تحظى بها حتى وقت غير بعيد يمكن أن يكون حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي حين كانت محتضنة من الصحافة اليومية وغير اليومية، ويشير إلى أن الصحافة خسرت هذا الركن وعليها أن تستدرك لتصحيح هذا الخطأ الجسيم بجعل الكتّاب يعودون إلى كتابة القصة ليستعيد القرّاء هذا الجسر الذي تراكم عليه التراب، وليزداد تواصلهم مع الصحافة، وإن كان من جهته لا يزال يرى أن القصة فن يختزل إمكانيات هائلة للتعبير الجمالي والفكري، وللسلوان أيضاً، ويؤكد أن بمقدور الكاتب أن يقول ما يريد عبر هذا النوع الأخاذ والرشيق والمكثف بعيداً عن الاستفاضة والثرثرة والإيغال في الغموض، وهذا ما يجعله ينحاز إلى التعبير بالسرد الحكائي القصير دون التفكير بالمردودية، مع إدراكه أن الموقف العام ليس دائماً على صواب، لا سيما في الفن وفي الأفكار.
ولأن التهكم يحضر بوضوح في معظم قصصه يوضح مهنا أن التهكم الخفيف يسري في لغته السردية، في الوصف وفي الحوار، وهو التهكم لا السخرية التي هو بعيد عنها، منوهاً إلى الفرق الجوهري بين التهكم والسخرية، حيث يكمن في التهكم بعدٌ تراجيدي في النظر إلى الواقع، وفي السخرية استعلاء وعدوانية أحياناً، والسخرية الزائدة عن الحد برأيه تتجاوز الكوميديا إلى الكاريكاتورية، وفيها تشويه للواقع، كما لا يوجد يقين في التهكم، بل الشك، كل الشك، بينما السخرية تقوم على اليقين.
أما الأحلام التي تتكرر في مجموعاته فيمكنه القول أنه ضحية أحلام نومه، فما إن يغمض عينيه ويغفو حتى يبدأ شريط الأحلام المتواصل، وبعضها مزعج، وبعضها غير مزعج، والبعض الآخر طريف، ومن هذا الطريف أنه يقرأ في الحلم كتباً وروايات عليها اسم المؤلف، والبعض من هذه الأحلام يفرض نفسه عليه عند اليقظة وكأنه يطالبه بأن يكتبه، ومن هذا النوع كتب بعض الأحلام كما هي ولم يقحم عليها شيئاً إلا ما تقتضيه صنعة الكتابة، ولذلك يؤكد مهنا أن حلم النوم حدث واقعي جداً، ونحن نعيشه مثل أية تجربة أخرى.
وعن رفض مهنا أن تُصنَّف قصصه في “مملكة التلال” بأنها قصص قصيرة جداً يؤكد أنه لم يقتنع كثيراً بهذه التسمية (القصة القصيرة جداً) ولا يرى أنها ناضجة، مع احترامه وتقديره لمن يكتب تحت هذا العنوان، مشيراً إلى أنه لا يوجد أصلاً حجم متفق عليه للقصة القصيرة، موضحاً أن النقاد يعتبرون أقصر قصة في العالم هي للكاتب الغواتيمالي أوجستو مونتيروسو1921-2003 وهي: “حين استيقظ كان الديناصور لا يزال هنا” ولا تبدو له أنها من أروع ما يمكن، وقد علَّق عليها عشرات النقاد العالميين، مؤمناً مهنا أن القصة مهما كانت قصيرة يجب أن يتوفر فيها بعض عناصر القص: “حكاية، حدث، شخصيات”

بيضة الديك
ويتفق مهنا مع معظم من يقول أن مجموعته القصصية “الأرض القديمة” قد نالت اهتماماً جيداً من الصحافة الثقافية ومن الكتَّاب، وقد عدَّها البعض بمثابة بيضة الديك، ويذكر أن صديقاً قال له: “أنا حزين عليك لأنك لن تستطيع أن تكتب شيئاً بعدها” مبيناً أنها ورغم صدور طبعتها الأولى عام 1997 والطبعة الثانية 2011 فقد كُتب عنها ثلاثة أضعاف حجمها، ولا يزال يُكتب حتى الآن، وأنه لو وزعها بشكل أفضل لكُتِب المزيد عنها، مؤكداً أنها نوع خاص من الكتابة، متجانسة الأجواء، لامس فيها مثيولوجيا بلاد الشام وما بين النهرين، مع خلق تواصل بالراهن، ولا يبالغ إذا قال أنه بذل فيها جهداً فوق التصور، حتى استغرق منه النص الأخير الذي ختم به المجموعة بعنوان “الكتاب” ما يربو عن الشهر من التفكير ووضع الاحتمالات وإقصائها حتى رسى على ما جاء عليه وجعله نصاً جامعاً لروح المجموعة كلها، وهذه المجموعة –برأيه- لاقت استجابة من الناس العاديين الذين ليس لهم تاريخ في قراءة القصص، وعند الكتّاب أيضاً.
ويرى أن القصة في أحد تعريفاتها كما يقول بورخيس هي اكتشاف وليست ابتكاراً يؤكد مهنا أن “الأرض القديمة” لا تحاكي الأساطير الكبرى ولا النصوص المكتملة والمتعارف عليها، فعوالم الأرض القديمة متخيلة من الفراغات والهوامش والتفاصيل المنسية في العالم القديم، وبالتالي فإن هذه المجموعة في عمقها المتخيل والمختلق ضد الأساطير، موضحاً أن الأساطير وصلتنا منقولة ومجتزأة، ونقرأها كنصوص مترجمة عن لغة أخرى، ونستجيب بدرجات متفاوتة لها لأنها تلامس اللاشعور الجمعي في كل منا، وهي أصيلة فينا، وكثيراً ما تستفزنا الحفريات واللقى والآثار التي تحيط بنا من كل جانب، ويكفي أن يتعثر واحدنا بكسرة فخار في الطريق حتى يتذكر أن في المكان الذي يضع قدميه عليه عاشت حضارات وشعوب قديمة ومر عليها غزاة عابرون، وهذا بحد ذاته محرض للخيال وللعقل أيضاً.. من هنا وعندما يكتب ذلك التداعي فهو لا يبتعد عن الحداثة ولا عن الراهن، وحين ذهب في هذا الاتجاه وفرغ هذه الشحنة المختزنة كان فن القص من أولويات أهدافه ليرمي حجراً في الحوض الراكد، ثم  تالياً تأتي الأهداف الأخرى ومنها اللغة التي أصبحت عند البعض غاية بحد ذاتها، وهي موضوع يمكن التفلسف به كثيراً، حيث هناك برأيه مستويات للعلاقة بين الكاتب واللغة، وهي ليست مجرد أداة تعبير، بل كائن حي كما يقول كثيرون، لذلك نجد أن الكاتب يكون مسكوناً باللغة بالمعنى العميق، أما عن استخدام مفردات اللغة في الكتابة فيعترف مهنا أنه ينفر من المفردات الصعبة والموحشة ومن الاستعراض اللغوي ويميل إلى ما هو سلس متناغم مع المجاز والرمز والسرد، ويحرص على الإيجاز وعلى فصاحة المفردة وعلى استخدامها في المكان المناسب، مشيراً إلى أنه إذا ما وقع في الخطأ أحياناً فإن هذا يؤرقه .
ورداً على ما جاء في إحدى كتابات جودت حسن من أن ناظم مهنا يبدو مميزاً في رؤيته للواقع وتسخيره للخيال يرفض مهنا أن يتحدث عن المطبات التي وقع فيها كتّابنا حينما فعلوا ذلك، مبيناً أنه ليس في موضع من يسدي النصائح للكتّاب، مع اعترافه بتعدد أنماط الكتابة السردية والطرق التي قد يستخدمها الكاتب.

كتابتي للأطفال تحد الشخصي
وعن خصوصية كتاباته للأطفال وهو الذي كتب قصصاً لهم وسيناريوهات في مجلة “أسامة” وتمثيليات إذاعية تجاوز عددها المائة والخمسين ينوِّه مهنا إلى أنه صدر له أيضاً عن مجلة “أسامة” كتيّب هو صياغة مبسطة لملحمة جلجامش، مؤكداً أن كتابته للأطفال كانت نوعاً من التحدي الشخصي، وقد وجد نفسه في السنوات الأخيرة منغمساً بها إلى درجة فاقت أية كتابة أخرى، وهو مؤمن أن الكتابة للصغار بالإضافة إلى كونها مسؤولية لها حساسية بالغة إذا ما أراد كاتبها أن يحظى بمودة الأطفال، فعليه أن يدرك أن الأطفال أذكياء بلا حدود، كما عليه أن يحرر خياله وعقله عندما يكتب لهم، ومن غير اللائق –برأيه- أن يبدو الكاتب متطفلاً على عالم الأطفال بسماجة وظل ثقيل، فلا بد من أن يحرض كاتب الأطفال خيال الطفل ودهشته، وأن يستعد ليتقبل منهم التحريض والمماحكة معهم كأنداد خارقي الذكاء. ويختم مهنا حواره معنا ورداً على من يخشى بعد أن قدم قصاً منفرداً أن يتجه نحو الرواية يؤكد أن هذا الأمر ممكن وهو يراوده، ولكن لم يبدأ به بعد، وإذا ما تم ذلك يطمح إلى أن تكون رواية واحدة لا غير يقول فيها كل ما عنده ويسكت.
وعن أسباب غيابه عن النشر منذ العام 2003 تاريخ صدور مجموعته القصصية “منازل صفراء ضاحكة” يعترف مهنا أنه تقاعس عن النشر بسبب الكسل والجو العام غير المناسب للطباعة، وهو لم ينقطع عن الكتابة، ولديه اليوم خمسة كتب تحتاج لأن يدفع بها للطباعة هي: الخوف جرح لا يندمل (قصص) قصص من المتن السردي (من أجواء التراث العربي) سرديات نصف غنائية (نصوص قصيرة يتداخل فيها السرد والشعر) نص شعري طويل من وحي مدينة البتراء التاريخية، وقصص للأطفال لم يجمعها بعد وهي كثيرة، بالإضافة إلى استمراره في كتابة الزاوية الأسبوعية في جريدة تشرين، وهذا يؤكد أنه لم يكن أنشط مما هو عليه الآن.
أمينة عباس