ثقافة

الخيانة والتـّاريخ الوردي في تاريخنا

-كما في كلِّ التـّواريخ- يوجد الكثير من الخونة، من أولئك من ساعد الغازي المحتلّ، كما في احتلال بغداد من قبل هولاكو، وكما حدث حين احتلّ الفرنسي سورية، والإنكليزي مصر، لكننا آثرنا دائماً أن نـُغفلَ هذه الحوادث -ظناً منا أن ذكر هكذا أمور يسيء إلى تاريخنا– لذا ذكرنا فقط الشهداء والمقاومين والعظماء، وحين صدَمَنا الحاضر بكم كبير من الخونة، لم تسعفنا ذاكرتنا في المقارنة والتـحليل لفهم ما يجري، بدأنا حينها نتعرّف إلى أبي رغال الذي دلّ أبرهة الحبشي التائه في شعاب مكـّة، وتعرّفنا على ذلك الذي شجـّع هولاكو وأغراه باحتلال بغداد، وعلى الخائن الآخر الذي فتح لهم الأبواب، تعرفنا على حقـّي العظم وعبد الرّحمن يوسف وعلاء الدّين الدّروبي، الذين ذهبوا لاستقبال غورو بعد معركة ميسلون، لم نكن نعلم أنّ تدريس ما فعله الخونة في تاريخنا هو ضروري لتستوعب الأجيال معنى كلمة \خيانة\، هكذا ظلَّ فكرنا طفوليـّاً، نعلم أنّ كلمة \خيانة\ ذاتُ مدلولٍ سيء، ولكننا لا نستوعب أبعادَه بدقـّة، لأنّ أعيننا قصرت عما تستطيع أن تراه.
في فرنسا خرجت النـّسوة الأرستقراطيات لاستقبال الغزاة بالورود والقبل بينما كانت النسوة يبكين في الأحياء الفقيرة في باريس، في مصر كذلك استقبلت النـّسوة الأرستقراطيات –ليس جميعهنّ طبعاً– الإنكليز بالورود، بينما كانت النـّسوة في الأحياء الفقيرة يبكين، في لبنان حينما دخل شارون، التقاه عدد من زعامات لبنان منهم من لا يخفي خيانته، ومنهم من يدّعي أنـّه تقدّميٌّ واشتراكيٌّ، ويسمـّي حزبه بهكذا تسمية، الذين استقبلوا الغازي الصهيوني في لبنان هم أنفسهم من يقفون مع الإرهابيين في سورية، الذين خرجوا لاستقبال غوروها هم في فنادق تركيا والسعودية ينظمون عمل الإرهاب في سورية، هكذا نماذج لم ندرسْها في مناهجنا كما يجب، ولا أعلم لم يصرّ القيـّمون على التـّربية والثـّقافة لدينا على وضع السـّكّر فقط، وحذف كل الطـّعوم الأخرى، لماذا لا تحوي علبة ألوانهم غير اللـّون الوردي، كان عليهم أن يهيئونا لمواجهة الخونة قبل تهيئتنا لمواجهة الأعداء (السـّوري لا يخون) عبارة نسمعها من وسائل الإعلام الوطنية، وعلى ذمـّتي لا يوجد شعب يخلو من الخونة، ولا من الغوغاء، بل أقول إنّ نسبة هؤلاء لا يستهان بها في أي شعبٍ ضمن أيّ حقبةٍ زمنيـّة، المستعمر يفهم ذلك جيـّداً، وكذلك الصهاينة، وقد ورد ذلك في بروتوكولاتهم توجـّها لاستغلال \الغوغاء\ في تدمير الشعوب\ فلِمَ لا نقرّ بهذه الحقائق وندرسها بتحليلٍ وعلم، بدل التناول العاطفي غير الواقعي، سور الصـّين العظيم لم يردَّ الغزاة، بكلِّ بساطة بسبب وجود الخونة. هنا لا بدّ أن نتذكـّر القصائد اللاهبة التي رفعت البيارق ورسمت الانتصارات عبر ماضينا المغرق في القدم وإلى الآن، كثيرة هي القصائد التي مجـّدت السـّيوف والبطولات، وقليلة كتاباتنا التي تشرح الهزيمة، هائلةٌ هي كتاباتنا في تعظيم ذواتنا من خلال النـّموذج –القدوة– وهذا طبعاً ضروريٌّ، ولكن هل يغنينا عن فهم النموذج المناقض؟ هل لنا الغنى عن الكتابات التي تشرح فجواتنا ونقائصنا؟هل أفلحت كتب التاريخ التي صورت تاريخنا العربي مليئاً بالملائكة؟ خصوصاً أن تلك الكتب سطرت أن هؤلاء \الملائكة\ لم يكفوا عن التـّناحر فيما بينهم. قال الشاعر \السيف أصدق أنباءً من الكتب\في حدّه الحدُّ بين الجِدِّ و اللـّعبِ\ ولكن ماذا عن الكتابات القليلة التي تكلمت عن النـّقائص والخيانة كقول المتنبي (وسوى الرّومِ خلف ظهرك رومٌ \ فإلى أيِّ جانبيك تميلُ) وكقوله (أرى المسلمين مع المشركين\ إمـّا لعجزٍ وإمـّا رَهـَبْ\ وأنت مع الله في جانبٍ\ قليل الرّقادِ كثير التـّعبْ) ترى ألا تصيب هذه الأشعار ما نحن به اليوم؟ الألوان المخملية، الوردية، الناصعة، التي لا شوب فيها، ملأت لوحة ذاكرتنا بالشوائب، ما سبب لنا إرباكاً في فهم الحاضر، لذا سيظلُّ الخونة سعداء بإغفال ذكرهم، كي يستطيعوا أن يفاجئونا دائماً.

قيس محمـّد حسين