ثقافة

شيزاري بافيسي: “لــــن أكـــتب بعــد الآن”

تميز الأدب الإيطالي في القرن العشرين بظهور عدد كبير من الشعراء والنقاد والمفكرين، وكان لهذا الأدب  حظ كبير من الشهرة العالمية، حتى إن جائزة نوبل للآداب قُدِّمَت منذ تأسيسها عام 1901 وحتى نهاية القرن إلى ستة أدباء إيطاليين، مثل بيرانديلو-داريوفو-غراتسيا ديليدا.. وبالإضافة إلى هذه الأسماء لمعت في إيطاليا أسماء أخرى خلال القرن العشرين على مسرح الرواية والشعر مثل مورافيا- بازوليني- براتولوتشي والشاعر والروائي والناقد شيزاري بافيسي، المولود عام 1980 في محافظة كونيو شمال غرب إيطاليا  والذي يمكن أن نتعرف عليه أكثر من خلال  “شيرازى بافيسي: حياته وأعماله” الكتاب الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب.. والكتاب بحث متكامل عن الشاعر والروائي بافيسي، ويتضمن مقتطفات من أشهر أشعاره ومقالاته وأقواله وملخصات لأهم رواياته وقصصه وشذرات من أهم ما قيل عنه وعن أعماله، ويؤكد الكاتب والمترجم نبيل رضا المهايني أن الكتاب لم يكن عملاً سهلاً في ظل الإلمام بكمّ هائل من المعلومات ليتمّ تدريجياً اختيار ما يمكنه أن يقدم فكرة أوضح للقارئ العربيّ عن هذا المبدع الإيطاليّ، عن حياته وموته وفنونه وأعماله، ومع هذا فقد أمكن له أن يستكمل هذا الكتاب وأن ينهي كتابة هذا البحث الذي كان قد بدأه بمقالة نُشِرت عام 2009 في إحدى المجلات.
ويبيّن المهايني أن هذا الكتاب مزيج من الترجمة والاقتباس والتأليف وسيعرف القارئ بعد الانتهاء من قراءته أن المصادر التي اعتمد عليها في عمله كانت مواقع انترنت مختلفة تتناول الكثير مما لبافيسي وله وعنه، مشيراً إلى أن الفصل الأول يتناول حياة بافيسي منذ طفولته المأساوية كفتى ذي شخصية انطوائية منعزلة، ثم انتقل لفصول من حياته المعذّبة وتجارب حبّه الفاشلة ومحاولاته الأدبية كأديب مغمور في البداية وشهير بعدها، ثم نجاحه في مجال الترجمة وحياته في المنفى، حيث كان يتمنى أن يخترع العباقرة دواءً مخدراً يضمن له سباتاً يدوم ثلاث سنوات، أي مدة نفيه، كما يجري الحديث في هذا الفصل عن فترة الحرب التي مرت بها إيطاليا وكيف تأثر بافيسي بذلك، لينتهي الفصل باستعراض المقدمات التي أدت في نهاية الأمر إلى إقدام بافيسي على الانتحار وهو في الثانية والأربعين من العمر.
أما في الفصل الثاني فيسلط المهايني الضوء على أهم ما قيل حول أهم مؤلفاته الروائية والشعرية، بينما يتم في الفصل الثالث تقديم مقاطع مختارة من تلك الأعمال وكذلك مختارات أخرى في الفصل الرابع عن مقاطع نقدية تتناول أعماله وشاعريته وأفكاره، مع خاتمة فيها ترجمة أشعار أخرى لبافيسي.

الأدب ستار وهمي
يشير المهايني  في الفصل الأول إلى أن بافيسي عاش  طفولة غير سعيدة، فماتت أخته التي ولِدَت قبله، ومات بعدها اثنان من إخوته، أما أمه التي أصيبت بمرض التيفوئيد فقد عهدت به إلى إحدى المربيات فاكتملت في نفسه مقومات تعاسة صاحبته طيلة حياته وتسرّب طعمها إلى كل مؤلفاته، لذلك يرى أن بافيسي اختار الأدب كستار وهميّ تنعكس عليه ملامح وجوده ويبحث فيه عن حلول لصراعاته الداخلية والأزمات التي مر بها، موضحاً أنه في العام 1930 قدم أطروحته الجامعية بعنوان “ترجمة أشعار وولت ويتمان” كما بدأ يترجم عن الأدب الإنكليزي والأميركي فذاع صيته واشتهر. وفي العام 1931 صدر له في مدينة فلورنسا أول كتاب مترجم “سيدنا فرين” للكاتب سنكلر ليويس وكان له فضل البدء بتعريف الإيطاليين بالآداب الإنكليزية والأميركية، ويؤكد المهايني أن مهنة الترجمة اكتسبت في حياة بافيسي أهمية كبرى، وكان لها فضل كبير في فتح منفذ نحو حقبة جديدة في حياة الرواية الإيطالية.
في العام 1933 بدأ بافيسي بكتابة ما وصفه مثابرة على الثرثرة، أي تلك المذكرات التي أصبحت فيما بعد كتاب “مهنة العيش”، ولكسب لقمة العيش استأنف عمله في الترجمة فقام عام 1937 بترجمة “المال الوفير” للكاتب دوس باسوس، وليعمل ما بين الأعوام 1936 و1939 على إتمام روايته القصيرة الأولى “السجن” التي استوحى مضمونها من تجربته في المنفى بعد أن حكم عليه بالنفي ثلاث سنوات لمجرد أنه قبِل استلام بريد له صفة سياسية يخص حبيبته، كما كتب رواية “بلدانك” التي لم يتمكن من نشرها إلا في عام 1941 لتكون أول ما نُشِر من رواياته وقد أثارت انتباه النقاد إلى هذا الأديب الكبير، في حين حاز كتابه “قبل أن يصيح الديك” الذي صدر في نهاية العام 1948 على استحسان كبير في الأوساط النقدية، كما حازت روايته “الرفيق” عام 1948 على جائزة سالينتو لتكون روايته “القمر والمشاعل” التي نُشِرت في ربيع عام 1950 آخر أعماله الروائية.

“لا كلمات، بل فعل”
“إننا لا نبحث عن أفكار جديدة عندما نقرأ بل نبحث عن أفكار كنا قد فكرنا بها من قبل” و“عندما أكتب أشعر أنني طبيعي، متوازن وصافي الذهن” و“إننا نحصل على الأشياء التي نريدها عندما لا نريدها” و“الحياة هي الوجود من أجل الموت”. هذه بعض  الأقوال التي  أفرد لها المهايني أحد الفصول في الكتاب والتي أخذها من مذكرات بافيسي التي كتبها بين عامَي 1935-1950 ونُشِرت فيما بعد في كتاب يعجّ بالتشاؤم هو “مهنة الحياة”.
ويختم المهايني كتابه بتعريف القارئ بمؤلفات بافيسي الروائية والقصصية والشعرية والنقدية والتي من أهمها:
>  سيأتي الموت..عيناه بعينيك: وهي من أهم المجموعات الشعرية الإيطالية، وأشهرها خلال القرن العشرين كله، وهي تلخص قصة حياة الشاعر وتتألف من عشر قصائد فقط، وقد وجدت داخل ظرف أحمر كان قد اكتشف غداة موته المأساوي منتحراً داخل غرفته يوم 26 آب عام1950.
> البيت على الهضبة: وهي رواية نشرت عام 1949  قدم فيها بافيسي بعضاً من قصص حياته بين عامي 1943-1945.
> السجن: وهي أول رواية يكتبها بافيسي رغم أنها  نشرت لاحقاً وهي من ناحية الشكل والمضمون تبين ذلك الجهد الذي بذله بافيسي لجعل الزمن الذي كتبت فيه الرواية نفس الزمن الذي قضاه في المنفى، من هنا فإن الرواية ليست نوعاً من المذكرات الواقعية عن منفاه السياسي، بل هي  تأريخ من الذاكرة.
> مهنة الحياة- مذكرات 1935-1950 حيث كتب المؤلف في هذه المذكرات أفكاراً مقتضبة ودونها حسب اليوم والشهر، وقد بدأها عام 1935 وأنهاها 1954 قبل أيام من انتحاره، والملاحظة المؤلمة في المذكرات تؤكد كل خيبات أمله من العالم “هذا مقرف بالفعل.لا كلمات، بل فعل. لن أكتب بعد الآن”.
أمينة عباس