ثقافة

أما آن لنا أن نبدأ؟

صياغة الوعي من الخطابة إلى الخطابالمحلل السياسي والخبير الاستراتيجي معكم، لساعات! ظاهرة استشرت خلال السنوات الماضية على نوافذ الأقنية الفضائية التي غزت الضمائر والعقول بتعدد مقولاتها وتذبذب بوصلاتها. ونتيجة للتحولات المخيفة التي عمت فضاء الوعي العربي صرنا بحاجة لمن يشرح لنا كيف نفكر، وماذا نقول عن كل أزمة أو حدث أو حتى حادثة. نشأت بين ليلة وضحاها، وعلى الطريقة الأمريكية بالتحديد، طبقة جديدة من المحللين والخبراء الذين كان جلهم حتى الأمس القريب شبه عاطل عن التفكير…والعمل. ومع عملية التفريخ الهرموني المريع لهذه الطبقة من الناس، صار على اللغة العربية استيلاد مصطلح جديد لوصفها، بما يشبه عبارة pundit الإنكليزية المشتقة أصلاً من السنسكريتية (نعم السنسكريتية!) والتي تشير إلى الأشخاص الذين تستعين بهم وسائل الإعلام عادة لملء مساحاتها وقتاً، أو حبراً أو مجرد حضور تحكمه ضرورات الخبر العاجل. والواقع هو أن جل هؤلاء المحللين والخبراء محترفو خطابة مستهلكة.
يقدم لنا النموذج الأمريكي بصيغته التلفزيونية (المعدة للتصدير لا للاستهلاك المحلي) كماً هائلاً من الخبراء الذين لا يملكون أبسط أدوات الصنعة التي يدّعون أستاذيتهم فيها. فكم من خبير في شؤون “الشرق الأوسط” لا يجيد أياً من لغات المنطقة (باستثناء ما تعلمه من عبارات المجاملة في كتيب تعليم العربية بدون مدرس)، ولا يعرف عن تاريخها إلا ما يمكن اجتراره من الأخبار الصحفية. وكم من خبير يقدم للجمهور، وبسعادة بالغة، استنساخاً متعجلاً يؤكد فيه على رؤية القناة أو الدورية التي تدفع له أجوره كي يقنع المشاهد بما تريد له وسيلة الإعلام أن يقتنع. وبالطبع في مقابل هذه الصورة الكاريكاتورية لخبراء الغفلة الذين غالباً ما يكون مجال خبرتهم “التلفزيونية” في “القضايا الخارجية”، يعمل المختصون الحقيقيون بصمت وهدوء وتؤدة أكاديمية في مؤسسات بحثية رصينة تقدم لهم كل الإمكانيات ليستطيعوا بدورهم أن يقدموا إلى أصحاب القرار مقترحات قابلة للتنفيذ، وعادة ما تصب هذه المقترحات في واحد من بابين:
1) سياسات محددة لها آليات تنفيذ واضحة
2) تطوير خطاب هدفه صياغة وعي ثقافي واضح الأهداف والوسائل، خدمة لسياسات مؤسسات القرار.
المؤسسات البحثية الفاعلة والقادرة غائبة تماماً عن المشهد السياسي العربي، ولهذا لاتملك معظم الدول العربية خطاباً ثقافياً مؤثراً في صياغة الوعي الوطني، ولهذا لا يوجد في ميدان الخطاب اليوم، وفي مرحلة خطيرة جداً، إلا بعض محترفي الخطابة ممن يتلعثمون حالما تطالبهم بتعريف غير بلاغي لمعنى كلمة “خطاب”. بعض هؤلاء استفاق على فنجان قهوته الصباحي مقرراً أن بلاغته وفصاحته هي طوق النجاة الوحيد في معالجة الجذور الحقيقة لأزمة وطنه، والتي هي أساساً أزمة ثقافة، وما المشهد العسكري، ولا ظواهر العنف والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة إلا نتائج لما هو في الأصل أزمة وعي ناجمة عن غياب الخطاب الثقافي الوطني الجامع.
يُعرّف الخطاب بأنه منهج في تنظيم المعرفة والأفكار والتجارب من خلال اللغة ووسائل التواصل المختلفة بغية تشكيل وعي ما وصونه وتغذيته بشكل دائم. في إطار هذا التعريف تتمكن مؤسسات إدارة الخطاب وتوجيهه من تحفيز التفكير النقدي لدى جمهور المتلقين (المواطنون). ووفق المفاهيم المرتبطة بهذا التعريف لا يمكن للخطاب الثقافي المتكامل أن يكون “قطاع عمل” لمؤسسة بعينها، فهو لا يتجلى فقط في نشرات الأخبار أو الصحافة المطبوعة أو الإعلام المرئي أو المسموع أو الالكتروني، بل في كل وسيلة اتصال تمس وعي المواطن لتعزز فطرته الوطنية وإحساسه بمواطنته في ذات الوقت. ويستخدم الخطاب الثقافي المتكامل لتحقيق أهدافه كل الوسائل المتاحة وطنياً بشكل متناغم غير مباشر: المناهج التعليمية، النشاطات الثقافية في المدارس والجامعات والمعامل والمؤسسات، الدراما التلفزيونية، المسرح، والبرامج الحوارية الحقيقية، شبكات التواصل الاجتماعي، الانترنت كبوابة معرفة وترفيه، كما أنه يستند في توليد مقولاته إلى ثقافة استطلاع الرأي العام، ليس كهدف بحد ذاته فقط بل أيضاً بغرض إشعار المواطن أنه شريك في عملية رسم المستقبل وصياغة الوعي.
قد يستعمل الخطاب الثقافي المتكامل أسلوب الخطابة كواحد من أدواته، لا كبديل عنه. فالخطابة فن تواصل بلاغي فاعل ذو تأثير وأهداف محددة. ويُظهِر التحليل النقدي للخطابة في نماذج تاريخية وثقافية متنوعة أن نجاحها غالباً ما يرتبط بشخص الخطيب الذي ينظر إليه المتلقون على أنه رمز وطني أو ثقافي ذو مصداقية وتأثير كبيرين. كما يُظهر أن الخطابة تفقد تأثيرها عندما تستبيحها جمهرة “خبراء” لا يميز المتلقي في كلامهم بين المقولة المؤثرة المستندة إلى وقائع تم تحليلها بتأن، وبين رغباتهم وتمنياتهم وأوهامهم الذاتية المسبوكة من خلال فصاحة مفتعلة. هنا تتجلى الخطابة بشكلها المجتر، والمنفعل بالحدث، لا المتفاعل معه، والمدغدغ لمشاعر الجمهور، والبعيد كل البعد عن تشكيل الوعي، وتصبح المطب الذي قد يقع فيه البعض، أو المنبر الذي يمارس من خلاله الوعظ السافر المنفر حتى لمن يسعى إلى التأثير عليهم. وقد يكون الوعظ المباشر مفيداً عندما ينحصر تفاعل المواطن مع وسائل الاتصال على قناتين تلفزيونيتين كما كان عليه الحال في ثمانينيات القرن الماضي. أما اليوم فالوعظ قاصر عن الوصول إلى الشريحة الكبرى من العرب: الشباب الذين يشكلون أكثر من ستين بالمئة من مجمل سكان الوطن العربي. هؤلاء غالباً لا تنقل لهم الخطابة الثوابت الوطنية والقومية بلغة يتقبلونها، بل يرون فيها مقاربة فوقية ممجوجة في أفضل الأحوال. إن الاستمرار في الهروب إلى الخطابة كمدخل وحيد لصياغة الوعي يجعل منها مقبرة للخطاب الثقافي الوطني المتكامل بدلاً من أن تكون أداة له.
يقدم النموذج الأمريكي في صياغة الوعي الوطني من خلال خطاب ثقافي متكامل مثالاً جيداً على فعالية التناغم بين مؤسسات تشكيل الوعي المختلفة. حيث نرى تكاملاً مؤثراً بين النسخة الهوليودية، وخطاب رئيس ما في لحظة تاريخية هامة، ومناهج التعليم، وحتى المسلسلات الفكاهية، في ترسيخ المغازي “الوطنية” مثلاً لقصص الحرب الأهلية الأمريكية، أو مرحلة الكساد الاقتصادي في ثلاثينيات القرن العشرين، أو الحرب العالمية الثانية، أو مرحلة الكفاح من أجل الحقوق المدنية للأمريكيين السود. ولا يمكن لهذا الترسيخ أن يأتي بنتائج حقيقة إن كان على شكل التكرار شبه الحرفي لنص أو لأسلوب عرض ما، كي لا يشعر المواطن أن المسلسل التلفزيوني قد أصبح بياناً سياسياً أو أن الكتاب المدرسي استنسخ افتتاحية جريدة كبرى في عرض موضوع ما. فمركزية الخطاب لا تعني اللجوء إلى تكرار مفردات معينة حرفياً بشكل آلي من خلال وسائل إيصاله المتنوعة. بل يعني تطوير لغة ومؤثرات خاصة لكل وسيلة بما يحقق الفائدة الأقصى من إمكانياتها.
يصبح الخطاب الثقافي المتكامل مؤثراً فقط عندما تستخدم أدواته المناسبة في سياقاتها الصحيحة. الانطلاق بمقاربة وطنية لصياغة مثل هذا العمل يتطلب تركيزاً على أن تشكيل الوعي الثقافي ليس مجرد قطاع عمل حكومي، بل هو بحاجة إلى تضافر جهود مؤسسات حكومية وأهلية متناغمة لا متنافرة، ولا مكان فيها للشخصنة. كما يتطلب استثماراً طويل النفس في الوقت والموارد البشرية. وفي ظل النزيف الصارخ للزمن وللموارد البشرية فقد آن الأوان كي نبدأ.
د. وضاح يوسف الخطيب