ثقافة

“بانكسي” الفنان المجهول: إن لم تعجبك أعمالي … يمكنك محوها!

سيكون غريباً أن يوضع منزل عادي في مدينة تشيلتنهام البريطانية ضمن قائمة الأماكن التي يمنع هدمها والتعرض لها، لولا أن واحداً من جدرانه القديمة يحتوي على جدارية “جواسيس غرفة الهاتف” لفنان الغرافيكس المثير للجدل” بانكسي”. هذا الفنان الذي بات أشهر من نار على علم، وأضحى مثار جدل حكومي وشعبي في آن معاً، لوحق كثيراً من الجميع، البعض بغية كشف هويته والبعض الآخر كي يمنعه من استخدام الجدران مكاناً لتنفيذ أعماله الفنية.

الفنان اللغز
في العام 2007 منح بانكسي جائزة أعظم فنان يعيش في بريطانيا، أقيم الحفل وانتهى ولم يحضر المحتفى به لاستلام جائزته، لأنه كان ولا يزال يصر على إبقاء هويته سرية بالنسبة للجميع.
وفي معرض أقيم سابقاً في العاصمة البريطانية لندن بعنوان “سرقة بانكس” يحتوي على 20 لوحة من أعماله، طالبت حملة شعبية بأحقية العامّة للوحاته، خاصة وأنها أعمال اقتطعت من جدران المنازل التي اختارها مكاناً لتنفيذها، الأمر الذي طالما شكل مصدر قلق وخوف لأصحاب المباني من بقاء لوحاته على الجدران ما يجعلها عرضة في كل لحظة لاقتطاعها من قبل لصوص اللوحات ومحبي هذا الفن للاستفادة من بيعها بأسعار باتت تتجاوز مئات الآلاف من الدولارات.
ويتحدث ستيف لازاريس الذي عمل لمدة تجاوزت العشر سنوات كوسيط لبانكسي عن الفنان الذي لم يتمكن أحد من كشف هويته، موضحاً أن الأمر تحول إلى حالة مَرَضية بالنسبة إلى بانكسي، وهو وإن حاول كشف نفسه للآخرين فالخشية أن لا يتم تصديقه. إذ   يرى النقاد أن بانكس تميز عن سواه من فناني الغرافيتي بتلك اللمسة الكوميدية الساخرة والطابع السياسي والاجتماعي الناقد مع الحرص على إبقاء الفكرة بسيطة بعيدة عن التعقيد ما جعله قريباً من عامة الناس منتقلاً بمستوى عمله الغرافيتي من الحالة التجارية والترفيهية إلى ما يدعى بالفن المفاهيمي، فبات يشكل ظاهرة فنية وثقافية وليس مجرد فنان غرافيتي عادي.

كيف يعمل؟؟
يعمل بانكسي في الخفاء وبسرية تامة ويدير مؤسسته الفنية عبر الانترنيت، يعاين المكان الهدف يحضر أفكاره بما يتلاءم مع العناصر الموجودة، وفي العتمة يخرج ويترك رسائله وكنوزه الصغيرة في كل مكان، من الشوارع والجدران وأنفاق المدينة، وما إن يعلن عن العمل حتى يتسارع صيادو الفرص ومحبو الفنون الغريبة بكاميراتهم للحصول على صورة للوحة أو تسجيل لتوثيقه قبل أن تصله أيدي لصوص التحف فيسلخونه عن الجدار أو ينتزع الجدار نفسه، ليتحول عاجلاً أو آجلاً إلى ثروة تتجاوز مئات الآلاف من الدولارات.
هذه الحالة باتت تشكل مصدر قلق دائم للكثيرين، سواء لمالكي المنازل أو للبلديات أومسؤولي المدينة أو حتى للفنان نفسه، ويبدو أن هذا القلق لن يذهب عن الجميع إلا بتوقف الفنان عن إنتاج المزيد من الأعمال.

فتحة في الجدار
ولأن روح الفنان لا تقوى على سجن الأمكنة، انطلق بانكسي خارج حدود موطنه ففي العام 2005 شد رحاله متجهاً إلى الاراضي المحتلة، معلناً بوضوح انحيازه التام للفقراء والمستضعفين وأصحاب المواقف البطولية في آن معاً، حيث اختار لعرض أفكاره الجانب الفلسطيني من جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل ونفذ عليه عملين من أشهر أعماله يمثل أحدهما رسماً لطفلة صغيرة تحمل مجموعة من البالونات تحاول التحليق فوق الجدار، وكما يحاول المقاومون دوماً اختراق الجدار بإحداث فتحة فيه، اختار بانكسي أن يكون العمل الثاني رسماً لفتحة في الجدار يطل منها المشاهد على شاطىء جميل، وتأكيداً على موقفه المعلن فهو يمكّن متابعيه على موقعه الالكتروني من مشاهدة شريط فيديو قصير بعنوان “غزة ترحب بكم” داعياً لاختيار وجهة سياحية مختلفة عن الطرق المعتادة، يدخل فيه أنفاق غزة ويدور في شوارعها، يلاعب أطفالها في الحواري، وهو يقول: ربما كان هؤلاء يحبون العيش هنا ولذلك هم لا يرحلون، وربما كان ذلك لأنهم لا يستطيعون المغادرة” مسلطاً كاميرته في الوقت ذاته على مجموعة من الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح. وفي الفيلم وثق لأعمال له تركها على جدران البيوت المدمرة، يصور أحدها قطة بيضاء بربطة عنق وردية، ويمثل عمل آخر شاباً فلسطينياً غطى وجهه بيديه، بينما كانت اللوحة الثالثة لمجموعة من الأطفال الصغار، وقد جعلوا من برج مراقبة إسرائيلي أرجوحة ضخمة يلهون بها.
أما في العام 2013 فقد اختار أن يغزو بأعماله نيويورك، حيث كانت المدينة مسرحاً لجنونه الذي استمر لما يقارب الشهر، جمعها في فيلم قصير دعي بـ “بانكس دز نيويورك” ركز فيه على الضجة التي سببها حضوره والهوس الذي أصاب متابعيه في المدينة.

ناشط على يوتيوب
أما عمله الأخير، والذي شكل مادة دسمة للجدل والأسئلة، وأدى إلى انقسام كبير في المواقف، فكان عبارة عن فيلم فيديو قصير نال أكثر من سبعة ملايين مشاهدة، يصور فيه مجموعة من المسلحين بزي مقاتلين إسلاميين مع تسجيل صوتي أخذ عن تسجيل آخر لمقاتلي المعارضة السوريّة المسلحة على “الانترنت”، باسم “المجلس الثوري العسكري” في حلب، يسقطون فيه طائرة للجيش السوري النظامي. وبعد التكبير والتهليل، ينجح المقاتلون بإسقاط هدفهم الذي سرعان ما يتبين أنّه ليس سوى الفيل “دمبو” إحدى الشخصيّات الكرتونيّة الشهيرة لشركة “والت ديزني”. يلفظ الفيل الصغير أنفاسه الأخيرة، بينما يقف أمامه طفل صغير غاضب سرعان ما يوجه ركلة قوية إلى ساق الرجل الذي أطلق الصاروخ، ليقع الأخير أرضاً، وهو يتألم.
الفيلم أثار انقساماً على مواقع التواصل الاجتماعي بين من قال إن بانكسي يسخر من أسلوب الإعلام الغربي في التعاطي مع الحدث السوري، وبين من قال إنه نوع من التهكم والسخرية،  مما دعي بالمعارضة السورية ذاتها.
أخيراً، بأعماله التي لاتحصى من “قبلة بين شرطيين” إلى”سجناء غوانتانامو” مروراً بـ”ملكة بريطانيا” و”طفل البرغر كنغ” وصولاً إلى “فأر الزمن القادم” وسواها من أعمال الفيديو آرت وجداريات أخرى، قال بانكسي: “بعضهم يحاول أن يجعل العالم مكاناً أفضل، أما أنا فأحاول أن أجعل منه مكاناً أجمل، فإن لم يعجبك رسمي، يمكنك محوه”. ومهما اختلفت الآراء حول فنه وأعماله أو حتى هويته، يبقى فناناً لا يمكن تجاهله أو على الأقل لا يمكن لرسائله أن تمر دون أن تترك خلفها مئة سؤال وسؤال.
بشرى الحكيم