ثقافة

“طيور الشوك”.. رواية ممتدة الأثر عبر عقود خارج إطار الجوائز

رواية رومنسية ملحمية تمتد أحداثها على من أكثر من نصف قرن، للكاتبة الأسترالية كولين مكلو ترجمة نضال حوّاط، تدور في أستراليا بين عام 1915 و1969، وتعاصر ثلاثة أجيال من عائلة كليري الصهباء المنحدرة من إيرلندا، والرواية دون تقييمها حسب الجوائز التي تقيّم الأدب عادة أثبتت أنها عمل فني رائع ومتكامل، وقد حققت أعلى مبيع في العالم عام 1977، حيث بيعت منها عشر ملايين نسخة في مختلف البلدان والقارات، حولتها الولايات المتحدة لمسلسل تلفزيوني عام 1983 أخرجه داريل دوك معتمدا على الرواية وأنتجه ديفيد ل وولبر، واحتلت إثر عرضه الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الثانية في إنتاج المسلسلات التلفزيونية في العالم، حيث تم تصويره في أميركا بأماكن شبيهة بالأماكن الأسترالية، ولاقى رواجا كبيرا في فرنسا والبرازيل، واستمر عرضه على القنوات التلفزيونية لغاية عام 2006.
ميزة هذه الرواية كونها لاتفشل بأي مرحلة من القصة وبأي صفحة في جذب القارئ، حيث تجمع كل عناصر الجذب الروائي، الحب الممنوع مع المأساة مع الطموح مع الغنى والفقر مع أحداث الحرب العالمية الثانية مع الشقاء الإنساني إلى المودة والألفة،لتكون ككل ملحمة تاريخية أبطالها من لحم ودم، كتبتهم الروائية بقرب شديد وتبصر عميق بكل شخصية على حدة، وتطويرها مع زمن القصة بأسلوب مبدع على الرغم من طولها، إضافة إلى الوصف الساحر والحوار الجميل المكتوب بحساسية عالية، لأن الكاتبة عرفت جميع الشخصيات حقيقة وواكبتها وتكاد تكون أحد أبطالها، إلا أنها أخرجتها ككاتبة معتمدة على أحداث حقيقية في نسج روائي متكامل أعاد إنتاج الواقع كما يجب، وهي مهمة الأديب وقدراته التي لا يمتلكها الأشخاص العاديون ليرووا القصص ويمزجوها ببعض من خيالهم لتصبح أفضل.
الرواية بكاملها تقع في ثلاثة كتب لكل منها حبكة منفصلة داعمة للحبكة الرئيسة التي تقوم على بطلة القصة ميغي الابنة الصغرى لعائلة كليري والشخصية الداعمة الأب رالف دوبريكاسار الممثل للكنيسة والسلطة الدينية في الرواية، حيث تدور بينهما قصة حب تمتد خمسين عاما، من أعظم وأخطر قصص الحب التي رويت في التاريخ، يجمعهما ذنب مشترك ويلتقيان في النهاية فلا يعرفان بعضهما عندما حان وقت القصاص الدنيوي.                    بينما تأتي الحبكة الثانوية الأولى في صفقة تعرضها ميري كارسون عمة ميغي العجوز الغنية مالكة الأرض وهي الجيل الأول من العائلة والأب رالف لتمتحن حبه لميغي الطفلة وتفرقهما.
أما الحبكة الثانية فتتكشف عندما يعرف القارئ أن أخطر ما تصرفت الشخصية الرئيسية ميغي وقررت كان الذنب نفسه الذي ورثته وراثة عن والدتها دون أن تدري هي نفسها أن الوالدة سبقتها إليه.
بينما الحبكة الثالثة المتممة للأجيال الثلاثة من نساء عائلة كليري، جاءت في نجاح ابنة ميغي المهمشة القبيحة التي تتخذ قراراتها بحرية تامة كونها لا تعني أحد، فتتزوج من رجل أعمال كبير وتعود لها ملكية أراضي آل كليري كلها نتيجة ذلك الزواج، وتنتصر هذه الشخصية على كل القيم وحتى على الكنيسة كونها تحررت من عقد الأم والجدة غير ذات القيمة من وجهة نظرها بينما اتخذت هي قراراتها بجرأة ودون مواربة.
“وأما جوستين الفصيحة، فقد كانت تكتب رسائل طويلة، كانت عبارة عن فيض من داخلها، رسائل وقحة تجعل الاحمرار يعلو الخدود عند قراءتها، والقلق يغلي في النفوس، ولكنها كانت رسائل مذهلة على أي حال”.
القدرة والموهبة الواضحة لدى الكاتبة في التسلسل الزمني الرائع بين الحبكات الثلاث بالتزامن مع  الحبكة الرئيسة الطويلة والتي تعمل بشكل غير مباشر على كشف الحبكات الثلاث. مما يعطي الرواية صفة المثالية في القبض على القارئ في كل صفحة وعند كل قصة أو تفصيل ثانوي مع ضمان عدم نقصان المتعة والإبهار الذي حققه الوصف.
الرواية غنية بأحداث غريبة ومتتالية مؤثرة، تتفاعل الشخصيات معها مشحونة بالعواطف، ويتخللها الوصف الساحر لأماكن متباينة في أستراليا، وتتميز هذه الرواية بعنصر الضخامة من حيث الوصف تحديدا لأرض دورغيدا حيث تدور معظم القصص، وحيث نرى كل صنف من الحيوانات والأشجار والمساحات بالآلاف وليس بالمئات، ثم  يأتي العنصر الثاني وهو زمن قصة الحب الممتد على خمسين عاما.”والأسماك منها آلاف وآلاف تسري بسرعة السهم مثل أحجار ثمينة حية، مستديرة كالمصابيح الصينية، حادة كالسهم، مخططة بألوان براقة بالحياة،بعضها يشبه اللهب بحراشفها البرتقالية والحمراء، والبعض يخطط الماء كأشرعة ملونة صارخة أكثر من ألوان الببغاء، ومن حين لآخر كان حوت رمادي يمر تحت الزورق ويبدو أن العمر سينتهي قبل أن يعبر بكامله”.
إن الرواية على موقف عدائي واضح مع الكنيسة الممثلة بشخص الأب رالف الذي يترقى فيما بعد ليصبح كاردينالا، إلا أنها ليست على عداء مع الدين، حيث بالوقت نفسه التي نسفت فيه الرواية نزاهة الكنيسة أثبتت عدالة قصاص الدين ووجود القصاص الدنيوي، وأشارت من خلال الحبكة الثانية إلى أن الذنب تمت وراثته جيل بعد آخر حتى تم التعامل معه بشكل صحيح، وهي وجهة نظر للكاتبة التي بنت عليها الرواية.
“وأحيانا يسمح لنا الله بكذبة صغيرة بيضاء..وابتسم، والتمعت سنه الذهبية..وأنا أفضل من أجل راحة بال الجميع أن نلجأ إلى أكذوبة صغيرة من هذا النوع، لأن من الصعب أن تفسر بطريقة مرضية علاقات الصداقة المتينة ،وإنما من السهل أن تفسر روابط الدم القرمزية، وعلى هذا سنقول للجميع أن الكاردينال دوبريكاسار خالك ياعزيزي دين ونترك الأمور هكذا، وأنهى الكاردينال دي كوينتي كلامه بلهجة رقيقة..وبدا دين مصدقا ..ورالف مستسلما.”
هناك نقطة تؤخذ على هذه الرواية وهي أن جميع شخصياتها الذكورية بالمجمل سيرتها الشخصيات النسائية المقموعة والمكبوتة جيل بعد آخر كقطيع من  قطعان الأغنام المذكورة في الرواية، حيث لم يكن لها أي دور أو فائدة سوى كسب العيش! وهي النقطة الخطيرة التي تشير إلى تطور الشخصية النسائية في هذه العائلة الأسترالية على مدى ثلاثة أجيال حتى حققت أخيرا ما تريد، بينما لم يحقق الذكور خلال تلك الفترة أي تقدم سوى استنزافهم في العمل المضني والحرب.
توفيت كاتبة الرواية هذا العام في 29 كانون الثاني في جزيرة نورفولك خيالية الجمال والتي وصفتها في روايتها وصف مدهش، وولدت عام 1937، كتبت الرواية أثناء دراستها الجامعية لطب الأعصاب وكانت الرواية الثانية، وبعد مبيعات هذه الرواية تحديدا تفرغت للكاتبة، وأنتجت العديد من الروايات آخرها “حلو ومر” عام 2013، وعملت في بداياتها لتحصيل المال في التدريس والصحافة.
حلا خيربك