ثقافة

موريس بارس و”جنة على نهر العاصي”

قد لا يكون أدب الفرنسي موريس بارس معروفا على نطاق واسع لدى الناس حديثاً أو حتى قديماً، لكن اسم الرجل معروف على أي حال.كان ميّالاً إلى اليسار في شبابه المبّكر، لكنه لاحقاً زاد ميلاً إلى اليمين إلى درجة أنه في آخر سنواته كاد يصبح فاشياً.
ينتمي بارس إلى مقاطعة اللورين ذات الحساسية الخاصة في النزاعات الحدودية الطويلة بين فرنسا وألمانيا. تفرغ الكتابة والسياسة حيث انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 1894، كما انتخب عضواً في البرلمان حينما خاض معركة انتخابية تحت شعار إعادة الالزاس اللورين إلى فرنسا.
وُصفت أعماله الأولى بالفردية التي برزت في روايته الثلاثية: تحت عين البراءة، رجل حر، حديقة بيرينيس. تمثلت النزعة الفردية في روايته الشهيرة “الجبل الملهم” التي انتشرت وتركت تأثيراً على الحركات التحررية التي قادها مثقفون من شعوب أخرى. في تلك المرحلة. في فترة الحرب العالمية الأولى، ضاعف بارس من نشاطاته كنائب وعضو في الأكاديمية الفرنسية واستمر في  كتابة مقالات يومية لمدة أربع سنوات في صحيفة (صدى باريس). جمعها بعد ذلك في كتاب بعنوان “تاريخ الحرب الكبرى”. أما أعماله الكاملة فقد جمعها ابنه بعد وفاته، وبدأت بالصدور منذ عام 1929 إلى عام 1957 في أربعة عشر مجلداً تحت عنوان “دفاتري”، وكان لأعماله تأثيرها الواضح على أجيال من الكتاب والفنانين والمفكرين الذين هزّت ضمائرهم كوارث الحرب العالمية الأولى، ومهّدوا الطريق لظهور مدارس وتيارات فنية وفكرية في أوروبا والعالم. سافر بارس إلى اليونان عام 1906 ونشر كتاباً بعنوان “رحلة إلى إسبارطة” يستذكر فيه الماضي والحاضر.ثم سافر إلى اسبانيا. ونشر بعدها كتاباً بعنوان “غريكو، أو سر طليطلة” عام 1911، ثم كانت رحلته الطويلة إلى الشرق، التي قادته إلى بعض العواصم العربية، تحت تأثير رغبة في فهم جوانب غير معروفة في الحروب الصليبية، ووصل إلى مدينة حماة في صيف عام 1914 ومنها استوحى أحداث أشهر أعماله الأدبية “جنة على نهر العاصي” التي تأخذ شكل الرواية داخل الرواية، وهي رواية استشراقية نادرة ومبكرة، تمثل نموذجاً للأدب الصافي الذي كان مؤلفها الكاتب والمفكر الفرنسي موريس بارس يطمح إليه، حينما يبتعد عن كتابة الروايات والدراسات الفكرية والسياسية، وهي من آخر أعماله حيث كتبها عام 1922، ولم تصدر إلا يوم وفاته عام 1923. كتب موريس بارس هذه الرواية (جنة على نهر العاصي) متأثراً بما شاهده وعايشه خلال رحلة قام بها إلى بعض مناطق سورية والشمال اللبناني.
إن قراءة المرء لهذه الرواية يكاد يدهشه أن يكون كاتبها أديباً فرنسياً حيث يلاحظ القارئ ما إن يجتاز بضع صفحات في الرواية كيف أن بارس عرف أن يرسم فيها أجواء لبنانية- سورية صرفة تنتمي تماماً إلى تلك المنطقة المشتركة في أجوائها وتضاريسها وسلوك سكانها وشخصياتها بين البلدين المتجاورين واللذين كانا زمن كتابة الرواية بلداً واحداً إلى حد كبير، فأجواء “جنة على نهر العاصي” تكاد تكون طالعة من فولكلور محلي. وفي هذه الرواية يخبر مورس بارس كيف التقى في العام 1914 في قرية صغيرة في سورية عالم حفريات أثرية إيرلندياً شاباً حكي له حكاية حب حدثت في المنطقة في القرن الثامن، وكيف أن هذا الشاب منهمك الآن في فك أسرار وحروف مخطوطة عربية وجدها تتحدث عن تلك الحكاية التي تقول: في منطقة تدعى قلعة عابدين كان يعيش أميراً قوياً جريئاً محاطاً ببلاطه المزدهر وأعوانه الأوفياء. وإذ استقبل الأمير ذات يوم سفارة من المسيحيين أتت تخبره بأن طرابلس، الأمارة المسيحية في ذلك الحين، تود أن تقيم علاقات حسن جوار معه، فأحس بتعاطف كبير مع قائد تلك السفارة، وهو ضابط فرنسي شاب في الرابعة والعشرين من عمره يدعى غيوم. وخلال جولة في قصر الأمير يطلع هذا الفارس المسيحي على الحياة الرائعة والفخمة في هذا البلاط. وذات لحظة حين تصل الجولة إلى حديقة رائعة تطل على نهر العاصي، يرى الضابط مشهداً فاتناً تتوسطه فتاة شابة رائعة الحسن يطلب الأمير منها أن تنشد أمام الضيف واحدة من أغاني الحزن الليلي الرائعة، فتستجيب الفتاة التي نعرف أن اسمها أوريانت (أي شرقية). وسرعان ما ترتبط بعلاقة انجذاب وعاطفة تجاه الضابط الشاب، بل إنها تجرؤ على الدنو منه لمصارحته بذلك الحب الذي لا يمكن مقاومته.
وإذ يقرّر غيوم البقاء مبادلاً الحسناء حباً بحب، يحدث أن أمير مدينة إنطاكيا، وهو مسيحي يهجم على المكان ويحاصره بأمل احتلال المنطقة. ومن فوره ينضم غيوم إلى جيش الأمير المسلم ناصحاً هذا الأخير بأن يقاوم دفاعاً عن القلعة بكل قوة، غير أن هذا كله سيكون وبالاً على الأمير الذي يُقتل ذات لحظة، بفعل خيانة غامضة لا يكشف المؤلف سرّها تماماً. وعلى الفور يتم اختيار الفارس غيوم لقيادة المنطقة وترؤس القلعة، ويزيد ارتباط أوريانت به. وأخيراً حين تبدو القلعة قد باتت على وشك السقوط أمام زحف قوات أمير أنطاكيا، يحاول غيوم الفرار من القلعة مع فاتنته الحسناء، غير أن هذه سرعان ما تفضّل عليه أمير أنطاكيا المنتصر، والذي سنفهم نحن هنا إنها ساهمت في تسليمه المدينة مذعنة أمام جاذبية الجاه والثراء. ويختفي غيوم فترة من الزمن، ليعود لاحقاً متنكراً بحيث لا يعرفه أحد. وهو هذه المرة أيضاً يستقبل في البلاط، وإذ يدرك خيانة أوريانت له، لا يتردد دون إهانة الأمير وأتباعه من المسيحيين، فيهاجم ويصاب بجرح خطير، بات من الواضح أنه سيقضي عليه. وهنا، في لحظاته الأخيرة، تدنو أوريانت منه تائبة مستغفرة لتعلن حبها العميق له وهي تنتحب: وهكذا، حتى أمام الموت وفي لحظة بات واضحاً فيها أن لا شيء يمكن أن يعيد إلى أوريانت ما فقدته، يخبرنا موريس بارس، عن طريق الحكاية التي يرويها له عالم الآثار، الشاب، أن الحب  والعاطفة هما المنتصران في النهاية. الحب حتى وإن بدا للآخرين إنه من دون جدوى في مثل تلك الساعة. وهكذا يؤكد “بارس” الدور الذي تلعبه الأقدار في حياة الناس.
إبراهيم أحمد