ثقافة

وماذا بعد ذبول الوردة

وردة المرج الحمراء
ها إنك بجرأة تتباهين اليوم بنفسك
بالكثير من الاعتداد
بعد أن تسربلت بالأرجواني والقرمزي
حقاً، إنه منظر مفعم بأجواء الغنى والعبير
لكن..
ما أن يذبل ماؤك ورونقك
حتى تصيري أنت كذلك.. شقية.
الوردة عندما تذبل لا يبقى منها سوى اسمها، ولعل مقطع موراليكس الشعري يجسد اختصاراً لمعنى عنوان الرواية ذائعة الصيت: “اسم الوردة”، مع أن امبرتو ايكو ينفر من المعاني الجاهزة للأشياء، والمقولات المنتهية، لأن العمل الفني فن توارد التأويلات لذهن المتلقي، وليس من شأن السارد أن يفسر، كما ورد على لسانه في حاشية على اسم الوردة، أما عندما يتحدث عن مجتمع تاريخي، كما في عمله “اسم الوردة”، على الرغم من تصنيفها بين الرواية التاريخية، والحبكة البوليسية، فهو يتحدث عن احتمالات الحدث، عبر التعقب، والتفسير للدلالات والرموز التي تحاول التفسير، وتعطي احتمالات عدة للعلة الحادثة، فالدير البيندكتي، والعصر الوسيط فضاء زمني لأحداث الرواية التي تدّعي المصداقية في إشارتها للحدث المروي من حيث مطابقتها للواقع التاريخي، ولكنها تبتعد في تخصيص الشخصيات من حيث صفاتها الشخصية، حيث من الممكن هنا الاعتماد على التخييل في الكثير من الجوانب التفصيلية، من خلال علاقتها بزمنها، والحوارات الفكرية التي تدور في جنباتها، إذاً تظهر بوضوح ظلال محاكم التفتيش التي سيطرت في ذاك الوقت لجهة هيمنة رجال الكنيسة على السلطات العامة كافة، وبالتالي الوقوف بوجه كل ما من شأنه أن يقف بوجه مصالحها وسطوتها، فالتزمّت ومحاربة الفنون والعلوم كان ديدنها بحجة الحفاظ على قدسية الدين وأصوليته، وما المماحكات الفكرية حول مسموحية الضحك والموسيقا إلا أحد التجليات للصراع الكامن بين مريدي الانعتاق، وبين سدنة المعبد، حيث تقوم مجموعة من الجرائم في دير عبر متاهة الرموز، ومتاهة المكان، يتم فيها انتقام الماضي من الحاضر بجرائم يرتكبها أعمى، معتبراً أنها الطريقة المثلى لحماية صرامة واتزان الكنيسة من خطورة الملهاة الضحك في كتاب أرسطو، بدهنه بالسم، بحيث يموت كل من يقرؤه إلى أن يضطر في النهاية لإحراق المكتبة بالكامل لحمايتها من الغواية، وإن كان ضرورة وصف حوار جرى في زمن ماض، وقد تجاوزها عصرها اللاحق، هنا يمكننا أن نقول: إن هذا نتيجة ذاك، أي أن التنوير الذي حصدنا نتائجه في العصور اللاحقة هو الفعل الذي عملته الثقافة في التغيير.
امبرتو ايكو اسم حفر عميقاً في وجداننا وعقولنا، وقد رفعت أشرعة الرحيل الأبدي معلنة غيابه جسداً، وحضوره فكراً وتاريخاً، محفزة لدينا رغبة استجلاء الإرث الثقافي الذي تركه، والوقوف على أطلال عمارته الروائية التي يلح على رؤية الرواية كواقعة كوسموبوليتية، أي عالم كوني بماديته وطاقته، وبالبشر الذين يتجولون عبر متاهته.
وبين التناص والاستفادة والتقليد والمحاكاة، لابد من الإشارة إلى استفادة دان براون من  فلسفة الرموز، والعلامات عند ايكو، ومحاولته تقصي القالب الذي اتبعه من حيث الدلالات والرموز من جهة، ومن حيث التشويق البوليسي الذي انتهجه في جل رواياته من جهة أخرى، إضافة إلى أن امبرتو ذاته يعتقد بأنه استوحى أخذ فكرة الموت بالسم المدهون على كتاب من إحدى أقاصيص ألف ليلة وليلة ذات الأسلوب الشعبي البسيط.
وبغض النظر عن أسبقية الوصول للفكرة، يبقى الأمر الأهم وهو المحمول الفكري، والمتعة الروحية الذي يريد إيصالهما للمتلقي، فالسجال والحراك الفكري الذي كان يمور في أروقة العصر الوسيط، والذي دفعت أوروبا ثمنه باهظاً من دم مفكريها، وإنسانها الحر، ترى هل علينا أن نعيد الكرة نحن أبناء الشرق، ونقارع محاكم تفتيشنا التي مازالت تعطي لنفسها الحق بسجن كاتب لأفكاره الدينية، والتي تظهر علينا بألف لون ولون، لفرض أسلوب التفكير النمطي الأسود في رؤية الكون والحياة، نعم علينا قلع أشواكنا بأيدينا، المعركة الثقافية مع طيور الظلام هي البوابة لانفتاح الفكر والعقل للخروج من هوامش العصر، والدخول في معترك الحياة.. امبرتو ايكو، الحاضر دائماً في الذاكرة والوجدان، وداعاً.
دعد ديب