ثقافة

“أبو فراس الحمداني”.. شاعر السلام والحرب

لأنه شاعر السلام والحرب، شاعر ما كان يوماً إلا صوت الأمة الهادر في نظم الكلمة الشاعرة، دفاعاً عن الوجود العربي والشخصية العربية والهوية التي تكاد تسلب منا في هذا الزمن العربي الرديء، حمل كتاب د رحيم هادي الشمخي الصادر حديثاً عنوان “أبو فراس الحمداني..شاعر السلام والحرب” وهو  الأمير الشاعر والشاعر الأمير الذي  عاش حياته مع ابن عمه سيف الدولة الحمداني.

شاعر البيداء
جاء في الكتاب  وعلى لسان د. الشمخي أن  الشاعر  الحمداني (فارس بني حمدان) لُقّب بشاعر السلام والحرب، نظراً لكونه شاعر البيداء، ولكونه أيضاً مقاوماً عنيفاً ضد الغزاة وأعداء الأمة العربية، وهو شاعر الروميات التي كانت خير أشعاره، التي تحمل أحلى المزايا، ففيها عزة نفسه، وإبائه، وجرأته، وشجاعته، وفيها حبه لوالدته، وحنينه إلى حبيبته ووطنه.
وإذا أردنا أن نتعرف على ما كتبه هذا الشاعر الأمير، فإننا نجد في هذا الكتاب جملة كبيرة من الحقائق تثبت شخصية هذا الرجل الأمير، الذي تساوى مع عظمة الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي قي المفارقات الشعرية أمام سيف الدولة الحمداني، وكانت خيرة أشعار أبي فراس هي تلك التي نظمها في أسره وبعثها إلى ابن عمه سيف الدولة، والتي تناولت العتاب والشكوى والرثاء والتأمل والحنين والغزل، أما موضوعاته فقد اشتملت على الموضوعات السابقة جميعاً بالإضافة إلى موضوع الوصف.
يحتوي الكتاب على أربعة فصول تناولت نشأة أبي فراس وحياته وشعره قبل السجن وفي السجن، وبطولاته الفذة في صد هجمات الروم على دولة بني أبو فراس الحمداني شاعر الأمة.
الروميات
يرى د. الشمخي في الكتاب أن الحمداني الشاعر لم يظفر في الدراسات العربية الحديثة بما يظفر به سواه من إعادة النظر والتحليل والمقارنة مع سواه من شعراء التراث، فقد أهمله دارسو الأدب العربي إلى حد بعيد، وكأنه من الشعراء الصغار في التراث لا من كبارهم، وهو ما لا يقرهم عليه دارسون آخرون يرون أن أبا فراس لم يكن مثل هذا الشاعر الصغير، بدليل أن له قصائد ذات شأن، لكن هؤلاء يقولون إن أبا فراس لم يعتن بشعره كما يعتني الشعراء بدواوينهم عادة، بسبب انصرافه إلى الحروب مع البيزنطيين. ولا شك في أن شعر أبي فراس الذي عني بنشره أحد أدباء سورية الكبار، الدكتور سامي الدهان يمثل لوناً خاصاً في الشعر العربي، فالشاعر كتب قسماً كبيراً من شعره وهو أسير في بلاد الروم عند البيزنطيين، لذلك تدعى قصائد الأسر “بالروميات” وقد عرف الروم شرف نسبه إلى الحمدانيين أمراء حلب وسواها من مدن الثغور، فكانوا يطلبون فدية عالية الثمن من سيف الدولة من أجل الإفراج عنه.

مرارة الانكسار
ويختلف مؤرخو الأدب في أبي فراس فمنهم من قال إنه أسر مرة واحدة، ومنهم من قال إنه أسر مرتين والرأي الثاني هو الأرجح بين المؤرخين. وقد كانت مدة أسره كلها سبع سنين والأسر في حياة أبي فراس مرحلة مُرّة عانى فيها الشاعر مرارة الانكسار وغربة الدار وذل الأسر. كان إذا خلا إلى نفسه بكى الشام والربوع فكان أسير الجسم في الروم وأسير القلب في الشام. في الموصل أحبابه وأقاربه وفي منبج أمه العجوز، وفي حلب مربيه سيف الدولة.
ويشير الشمخي إلى أن سيرة أبي فراس الحمداني تصلح لأن تكون عملاً درامياً، شعرياً أو مسرحياً أو غير ذلك فالدرامية مبثوثة في جينات هذا الشاعر الذي قتل والده وهو في الثالثة من العمر ابناً لامرأة رومية، تخصص حياتها بعد موت والده لرعاية أولادها ومنهم أبو فراس وشقيقته.
من هنا يؤكد الشمخي أن هذه السيرة تصلح لعمل درامي كبير فهو شاعر مناضل قارع الروم في حروب لا يبالغ المرء إذا اعتبرها بداية للحروب الصليبية المعروفة، أو مقدمة لها يوليه ابن عمه إمارة حمص ولكنه سرعان ما يفقدها بعد وفاة ابن عمه، كما يفقد حياته على يد غلمان أتراك كانوا قد بدؤوا يتحكمون بقرار المصير العربي، وبالتالي كان موته على هذه الصورة التي رسمها المؤرخون يشكل فاجعة شديدة المرارة، ويأسف الشمخي على أن أحداً من الفنانين والمسرحيين والشعراء الكبار لا يلتفتون في العادة إلى مثل هذه السيرة، مع أنها تهب أعمالهم بركات لا حدود لها موضحاً أن شعر الحمداني يتضمن إلى حد بعيد سيرته الذاتية: العصر الذي عاش فيه، والأسرة التي نبت فيها وحمل اسمها، ومراحل حياته بين الموصل والرقة ومنبج وحلب وخرشنة والقسطنطينية.. كل ذلك نجده مرسوماً أصدق رسم مصوراً أجمل تصوير في نظم أبو فراس من شعر وما ترك من قصيد.
يلخص الشمخي الحديث عن أبي فراس الحمداني فيقول: شاعر عربي النسب، شريف نبيل في أسرته، غني في تربيته، نشأ نشأة الأمراء وعاش عيشة الملوك، كان يأنف أن يحسب في عداد الشعراء وهم من حاشية الأمراء..ولم يكن الشعر عندهم إلا لمفاخرة ومديح آبائه النجب، ومقطوعات لتحلية الكتب فيفخر بالحمدانيين ويصم كرمهم وشجعاتهم وحروبهم وانتصاراتهم ضد الرّوم..في حين كان شعره جريدة يوميّة لحياته منذ أن شب حتى مات، فهو مرآة لأيامه نكاد نحصي فيه دقائق عيشه فهو قوي الحس، حاد المزاج، سريع الغضب، سريع الرضا، كما نجد في شعره لهو الصبا وعبثه وذكر الأحبة والوصال والهجر والحسد والكيد، مشيراً الشمخي أيضاً إلى اخوانيّات الشاعر الحمداني التي كان يرسلها إلى أصحابه وإخوانه وأقاربه والتي كانت روحه تشرق فيها بالإخلاص وتفيض بالولاء، فمن خلالها شاركهم في الحزن والسعادة ولعلّ أعظم رسائله هذه تلك التي كان يسطّرها إلى سيف الدولة ويرسلها من منبج إلى حلب والتي يتنسم فيها القارئ رقة الشعر الشامي وعذوبته، جماله وصدقه، جزالته وفصاحته، سهولته ولينه.
وفي عناوين أخرى تضمنها الكتاب تحدث الشمخي عن: مفارقات شاعرنا مع شعراء عصره، وشاعريته وشعره إلى أمه وابنته وعشيرته في الروميات والبناء الفني للرومية الحمدانية، وتجربة السجن في شعره وغيرها من العناوين الأخرى.

الكتاب صادر عن دار العرّاب ويقع في 197 صفحات من القطع المتوسط.
أمينة عباس