ثقافة

“العودة للمنزل” في النادي السينمائي

اختارت رئيسة مؤسسة أحفاد عشتار د. أيسر ميداني الفيلم الصيني”الرجوع إلى البيت” الذي بُني على خلفية سياسية وحمل أبعاداً عميقة، تركت تبعاتها شروخات إنسانية وجروحاً لاتندمل، لعرضه بافتتاح النادي السينمائي بموسمه الجديد بالتعاون مع وزارة الثقافة في سينما كندي دمشق، تحية إلى الشعب الصيني الصديق لمناسبة احتفاله بالعيد الوطني لما يتضمن من انعكاسات أثرت على المجتمع ككل، وتنسحب على المجتمعات التي تعرضت إلى الحروب ومنها سورية، فنجد ملامح من تلك الانعكاسات على المرأة خاصة.

وقبل العرض رحبت د. ميداني بعودة النادي السينمائي التي تزامنت مع انتصارات جيشنا وتحدثت عن أهمية الفيلم الصيني “العودة للمنزل” الذي يتناول مرحلة ما قبل الثورة الثقافية وما بعدها، وطرح قضايا كبرى قد تتماهى مع بعض القضايا التي تعيشها سورية وتلامس جوانب إنسانية، وفي الوقت ذاته مشاهدة الفيلم فرصة للتفكير بإشكاليات وقعت فعلاً، وعن الجوائز التي حصل عليها الفيلم وعن مكانة المخرج زانغ بيمون الذي يعدّ من عباقرة السينما العالمية، وأضافت: أردنا أن نفتح منافذ ثقافتنا نحو العالم ونحو الدول التي وقفت إلى جانب سورية في مواجهتها هذه الحرب الشنيعة، لاسيما جمهورية الصين الصديقة، وأنهت حديثها بأهداف مؤسسة أحفاد عشتار والتي تحاول نشر الثقافة للتخفيف من وقع الجهل الموجود في مكان ما، ولمعرفة أمور تجعلنا نميّز العدو من الصديق.

شروخات الحروب

نهاية فيلم “العودة للبيت” الحزينة أثرت في الحاضرين وتغلغلت بعمق في الذات وجسد بشفافية ورومانسية مفعمة بالحزن تلك الانهيارات والشروخات التي تحدثها الحروب على الصعيد الإنساني والعاطفي والاجتماعي، حيث تدور قصته حول أسرة صغيرة من خلالها تطرق المخرج إلى أبعاد الحرب إذ اعتُقل لور المفكر (البروفسور) الذي وقف في وجه الفساد والظلم وتحمل مسؤولية وطنه على حساب مسؤوليته تجاه أسرته، يتمكن من الهرب بعد عشر سنوات لتبدأ القصة بالمشهد الذي يوحي بالبداية حينما ينهمر المطر بغزارة، ونرى لور يطرق باب منزله لتشعر بقدومه زوجته المعلمة يو، لتنظر برقة إلى مقبض الباب الذي يتحرك إلا أنها لم تقوَ على فتحه لتفقد هذه اللحظة إلى الأبد، يترك لها رسالة لتقابله في الثامنة صباحاً في محطة القطار، لكن ابنتهما داندن الطالبة في المدرسة الثانوية الحاقدة على الأب لأنه من وجهة نظرها هدّم حياتها وحرمها من تكليفها بالدور الأول كراقصة لعرض السيدة الحمراء لتاريخه، إذ عدّه الحزب”عدو يميني ماكر”، ترفض هذا الأمر وتكشف لنا الأحداث سراً كان السبب بما حدث لاحقاً، يتم إلقاء القبض على لور مرة ثانية، ليمضي الفيلم بمسار جديد وينتقل إلى مرحلة ما بعد الثورة الثقافية.

بساطة الصورة

اللافت في الفيلم البساطة الإخراجية التي اعتمدها المخرج من حيث اختيار المنزل الصغير في منطقة متطرفة يتنقل سكانها على الدراجات العادية، وتركيزه على التفاصيل الصغيرة على الأشياء الموحية برموز ودلالات لتنتقل الكاميرا إلى مشاهد مطوّلة في المنزل، لكنها تحمل أبعاداً عميقة ومحاور شكّلت مفاصل هامة في حيثيات المجتمع وفي الحياة عامة، لنرى تطور الصراع الدرامي من خلال الصمت الحزين الذي ترتسم ملامحه على وجهي يو ولور وعلى العلاقة الإنسانية القريبة البعيدة التي تربطهما، ليأتي المشهد الحاسم حينما يعزف لور على البيانو نغمات رقيقة تسرق قلب يو وتجعلها تصعد الدرج متلهفة لتمرر أصابعها على وجهه، لكن الصفعة التي وجهتها له لم تكن صفعة للور فقط، وإنما لكل من شاهد الفيلم لأن كل محاولات لور بتنشيط الذاكرة الخيالية ليو بمعالجتها الأدبية والموسيقية والمكانية برؤية صورهما، والإصغاء إلى المقطوعات التي كان يعزفها، والذهاب إلى أماكنهما المشتركة فشلت من شفائها من مرض النسيان النفسي، الذي جعلها لاتعرف أنه زوجها الذي تنتظره في الخامس من كل شهر بناء على رسالته وتذهب إلى المحطة تترقب قدومه، وتعتقد أنه رفيق في الحزب يساعدها في قراءة رسائل زوجها، الرسائل التي كان يكتبها لور لها ولم ترسل ولم تصل إليها، وإنما حملها في صندوقه الخشبي الصغير حينما أفرج عنه من قبل الحزب بعد أن تعافى من أمراضه.

الحرب والإنسان

وقد تمكن المخرج من السيطرة الكاملة على النص من خلال المشاهد المغرقة بالحزن التي تجمع بين لور ويو وهو يقرأ لها رسائله وتنم عينه عن يأسه وإصراره على رعايتها، في الوقت الذي لم يتوقف فيه ذاك البخار المتصاعد من الإبريق الموضوع فوق المدفأة والموحي بالصراع الداخلي للشخصية بألم الانتظار وترقب اللقاء وخيبة الأمل والدموع المختبئة خلف الوجوه، تمضي الأحداث لتعترف داندن لأبيها بأنها هي التي وشت به ونتيجة ذلك سقطت يو على الأرض ووقعت على رأسها فأصيبت إثر حادثة اعتقاله من جديد بمرض النسيان النفسي، ويعرف لور أن فاينغ المسؤول عن الحزب الذي اغتصب يو وهي ترجو وساطته من أجل لور اعتُقل بإيماءة واضحة إلى محاسبة الفاسدين، وتتفجر مشاعر الحزن لتتعانق مع حبات الثلج في المشهد الأخير بعد مرور عدة سنوات لنرى يو المسنة تركب بصعوبة العربة برفقة لور الذي أنهكته السنوات، ليشقا طريقهما وسط الثلج ويذهبا إلى المحطة لينتظرا لور، ويغلق الباب الحديدي مجدداً بعد عودة الجميع، ويوصل لنا المخرج رسالته بأن الحرب تقضي على كل شيء وتقتل أجمل المشاعر الإنسانية.

الحبّ والتضحية

بعد العرض أشادت د. ميداني بمشاعر الحبّ اللامحدود واللامنتهي الذي عاشه بطل الفيلم وجعله يضحي بالبقاء بجوارها وبرعايتها، مما يدل على واجب المسؤولية تجاه الأسرة ولكن المسؤولية تجاه الوطن كانت أكبر كما رأينا بالفيلم، وعلقت على العلاج الثقافي الذي نحتاج إليه الآن لنرمم جروحنا الدامية إثر الحرب الإرهابية، والتأكيد من قبل الحضور على الدور الكبير الذي قامت به المرأة السورية في الحرب، وبالدعوة إلى التئام الأسرة التي هي نواة المجتمع.

ملده شويكاني