ثقافة

– ذاكرة-

وقف أمام المرآة.. اليوم سيكمل العقد الخامس من عمره، اللون الألماسي لم يترك أثراً للسواد في خصلات شعره، تحنى شعره ولم تخنه الذاكرة، لم ينس طفولته، شبابه، مغامراته. بدأ يتأمل علامات السنين على وجهه وهو يحدث نفسه: الآن سأبحر في ذكرياتي، في أجمل أيام مضت، أذكر فجراً هادئاً، منعشاً أذكر بستاناً كبيراً، ذهبياً، جافاً وعارياً. أذكر المشي بين أشجار الكينا ورائحة الأوراق الساقطة، كان الهواء نقياً وكأنه ذاب في العدم ومن أنحاء البستان تتعالى أصوات البشر.

أذكر رقود الشبان في العربات ليلاً وهم يحدقون إلى السماء المرصعة بالنجوم، أذكر الصباح الهادئ الذي لم يكن يخرق هدوءه البارد سوى زقزقة العصافير على أشجار البستان وأصوات الفلاحين، أذكر تلك الخيمة الكبيرة إلى جانبها تنور ترابي، أذكر العيد قرب تلك الخيمة، حيث يقام معرض كامل، أناس كثر بثياب مزركشة، أصوات الضحك والأحاديث ووقع أقدام الراقصين أحياناً، أذكر الليل، كان الطقس بارداً جداً وندياً، وبعد أن نمضي إلى البيت فنتناول العشاء بشهية مفتوحة، كانت أصوات البشر وصرير الأبواب واضحة في الشفق البارد، هاهو الظلام قد حل، هاهي رائحة جديدة تنبعث في البستان، رائحة لهيب الموقد والدخان العطر المتهادي من أغصان الكرز، أذكر المشهد الأسطوري يترامى في القمة من عمق البستان، لهب أرجواني يتوهج قرب الخيمة كحجر الجحيم تحيط به الظلمة وأشباح سوداء كأنها قدت من خشب أسود تحوم حول الموقد، وظلالها العملاقة تتراقص بين الأشجار.

أذكر آخر الليل عندما تنطفئ الأضواء في القرية وتلتمع النجوم اللؤلؤية عالياً في السماء، تركض مرة في البستان إلى الخيمة مثيراً في طريقي خشخشة الأوراق الجافة. صحا من ذكرياته وقد نسيت الابتسامة أن تختفي من وجهه عاد إلى عمله الروتيني وكأنه ولد من جديد، فهناك في الفسحة قدر أكبر من الضوء كم هو بارد وندي ليل قريتي وكم هو جميل العيش في هذا العالم رغم قسوته.

صفحة من كتاب

بينما كان يقوم بترتيب مكتبته الصغيرة، وجد دفتر يومياته مع أصدقاء عمره، ولأنّ المحبة نهرٌ يجري عذباً في صدر الزمن القاحل، تذكر صداقته المتينة وراح يقلب دفتر مذكراته، ليعيش بين سطورها، أجمل ما دونه له صديقه، من هنا حيث الجبال الراسخة تزاحم السهول لئلا تشاركها متعة جمال الشروق، وحلاوة دفء شعاع الشمس الذهبية، حيث أشجار اللوز العفيف الساقعة وشجيرات البطم تتنافس فيما بينها على من يستقبل الشمس أولاً، حينها كنت وإياك نطوي الطريق صاعدين في الوادي الذي كنا قد انتهينا من العمل في الأرض الموجودة فيه، وقطفنا بضع ثمار ناضجة من شجيراته المثمرة، حيث كانت جميع الأشجار ترسل حفيفاً عميقاً دافئاً، ومن بين هذا التناغم الملتحم والمتحد لهذا الكون المستمر أَلِف خرير شلال، جدول أبدي التدفق، لا يزول ولا يفنى، إنها تؤلف كوناً عقلياً تأملياً خاصاً يستوعبه كل من يدرك كيف يصمت هذا الكون لترقص الكائنات، ليسير الزمن بالإنسان، أتذكر شهر آذار حيث كان هذا الشهر يلمس الطبيعة فتتحول مزهرة مزركشة بأزهار من كل صنف من أصناف الثمار.. شهر آذار يمسح الفضاء فينشر النسيم بليلاً مشبعاً برائحة الزهور، إنه يمسح الخراف فتثب من سباتها وثبات لا تعرف مغزاها، وكأنها تستجيب لنداء الطبيعة الخفي ذي الجرس الندي يسترد في ركنه غريزتها كل عام في الوقت نفسه، لا بد أن تذكر مدى جمال هذا اليوم ومدى السعادة التي عشناها فيه خاصة في ذلك اليوم الذي راح اللوز ينافس بأغصانه الخنجرية القاسية أسنان حجارة صلبة بارزة صماء جرداء توزعت بشكل عفوي كسيوف مسلطة على رأس كل جبل، حيث كل هدوء لحن للطبيعة خالد، وكأن الطبيعة أدركت أنها لن تدرك الزمن فاطمأنت وركنت، كانت مخلوقاتها تتجه إلى منافذ تؤدي إلى شلالات لتروي عطشها من مياهها العذبة، إلا أن ما يروق العين من جمال ويبهج النفس، هو رؤية الغزلان التي تظهر أبداً وكأنها في عيدٍ دائم، وهي تتقافز من رأس إلى رأس حيث حفيف النسيم وهو يقبل أوراق الشجر وخرير الشلالات، وهي تنهال من الأعلى إلى صدر جدول رقراق مسقسق، وصفير الهواء في أذنيْ الوديان وثنايا الفجوات وشعاب الجبل ندياً نشيطاً على صوت صباح متموج القدوم، نيساني الهمس وضاء الخطا فاستوى العشب يستقبله رسيلاً مشبعاً رياناً، وبالحياة يسمع سقسقة الجدول البطر تنشر كلها آمال الإنسان على شعاع ذلك الصباح وتذروها إشراقاً وعملاً لتمتزج مع تسابيح الطيور التي شرعت تتناوب التناغم مع حفيف الأشجار.. كل هذه الألحان تنصهر في وحدة كونية يبعثها ناي الوجود الدائم المتتابع التعاقب. انتهى من هذه الصفحة وأغمض عينيه مبتسماً يحاول أن يبقي نفسه في النشوة التي عادت إلى صدره وهو يتذكر تلك الأيام.

تغريد الشيني