ثقافة

محمد عيسى برائحة البراري

رأى الشاعر محمد عيسى أن ما أنجزه على صعيد الشعر لخَّص ما كان يريد قوله، معترفاً على هامش الندوة التي عُقِدَت مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة بإدارة الأستاذ أيمن الحسن ومشاركة الناقد عماد فياض والأديب محمد الحفري للحديث عن أعماله الشعرية أنه كشاعر يفتقد لعين الناقد الموضوعي، وأن النظرة الموضوعية لحصيلة ما أنجزه يجب أن تكون من أطراف أخرى كالأسماء المشاركة في هذه الندوة، وأكد أنه ضد الشعر المجاني الذي يعتمد على اللعب باللغة والكلمات بعيداً عن أي موضوع لإيمانه أن الكتابة الشعرية يجب أن تتناول موضوعاً ما، ولكن دون أن يكون ذلك عن سبق إصرار، منوهاً إلى أن التأمل هو الذي يقود إلى الرؤى والأفكار الجديدة، مشيراً -وهو الذي أصدر ثلاثة دواوين- إلى أنه لا يستطيع اليوم أن يجري مفاضلة بينهما حيث لكل ديوان خاصيته، فالأول “شيء ما” ينحى إلى الماورائيات الفلسفية، والثاني”مائدة البراري” يتحدث عن الوجود، والثالث  رتوش ما بعد العاصفة”عن الطبيعة التي تحيله إلى طفولته.

ليت لي غابة وفرساً
وبيّن الناقد عماد فياض أن السردية بدت واضحة في ديوان “شيء ما” للشاعر عيسى، وأيضاً في المجموعتين اللاحقتين، ويعود السبب برأيه لحاجة الشاعر للكلام الذي حُرِمَ منه في فترة من الفترات، لكن الملاحظة المهمة لفياض هي أن هذه السردية تنكص إلى الماضي ليستمدها من الطفولة والطبيعة حيث البراءة والحرية مقابل الحرمان، فيغلفها شوق للبوح للتغلب على الصمت:
أنا الذي أتيت
قبل أن أكون كنت
أنا الذي نظرت
فرأيتك تهرولين الفصول على قدميك الصغيرتين
وتستمر السردية -كما أشار فياض- في ديوان الشاعر الثاني “مائدة  البراري” حيث يذهب عيسى إلى الطفولة يأخذ منها ويبدو من خلالها يملك كل شيء ويسأل عن كل شيء، لذلك تمتلئ قصيدته بعناصر السرد كما في قصيدة “أول النبيذ”:
أذكر تلك الصباحات الكانونية
كان أبي يرغمني على شرب كأس نبيذ
وهو يقول
اشربها دفعة واحدة
حتى لا تشعر بالبرد وأنت في الطريق
كانت المدرسة تبعد عن قريتنا مقدار قريتين
وفي ديوانه الثاني يعبِّر عيسى كذلك عن رومانسية الطبيعة والتي تذهب عميقاً في الريف والتي يرسم من خلالها صورة بشرية مدهشة، فقصيدة “مقامات التحول” المؤلفة من عدة مقاطع شعرية وجدها فياض تغوص في الطبيعة وتأخذ من مفرداتها وعناصرها:
ليت لي غابةً وفرساً
وبيتاً صغيراً في طرف الغابة
وصديقاً يصعد السفح من بعيد
قادماً لزيارتي
وأنا أقف رافعاً يدي فوق عينيَّ
كقبعة
أستظل بها من سطوة الشمس

الحب عابر
تبدو العلاقة مع المرأة مرتبكة والحب عابر لا يُكتب له النجاح في شعر عيسى، وما يعبِّر عن هذا الحب المشروخ أصدق تعبير كما رأى فياض قوله:
عدت يا خريفُ وما عادتْ
لا فستانها على الكرسيِّ
ولا حذاؤها أمام الباب
حتى شعرها
لا شيء منه بين أسنان المشط
وبسبب الفشل المتكرر في الحب فإن عيسى لم تبقَ لديه شروط مسبقة للحب.. هو الآن يريدها امرأة عادية، وهذا ما نجده في قصيدة “صيغة نهائية”:
امرأةٌ جميلةٌ
وبارعةٌ في قلي البطاطا
هذا ما أبحثُ عنه
لنتقاسم مفتاحي بابي
والمميز برأي فياض في قصائد عيسى ذلك الطقس الشتائي، فهي غنية بمفردات المطر والغيمة والريح والعاصفة والثلج وكنزة الصوف، ومن هنا فإن طقس القصائد طقس حميمي داخلي، حيث البيت أو القرية منفتحة على الفضاء الخارجي من دروب وأودية وجبال وسهول، وكل ذلك منح القصيدة تلقائية عند استعادة اللحظة الماضية.

نصوص مستفزة
ووصف الأديب محمد الحفري قراءته لأشعار عيسى بأنها قراءة محبة تبتعد عن القراءة التي تطبق النظريات الجاهزة والتي توضع أحياناً قبل قراءة المنتَج، ولذلك بيّن بدايةً أنه عندما قرأ الديوان فكر أن يكتب الشعر لأنه وجد نفسه أمام نصوص مستفزة بما تعنيه هذه الكلمة والتي تحرض القارئ على التوقف والتأمل، وربما الكتابة، فعيسى –برأيه- لا يقول القول من فراغ، بل هو ذلك الذي يمتلئ ثقافة ودفئاً، موضحاً أن نصوصه في مجملها مهمومة بالقطارات والسفر بمعنى من المعاني، وفيها طفولة ناظرة نحو البعيد، نلمس فيها بحث الكاتب عن أبيه في أحدها ليعاقبه لأنه يخاف عليه، أما اليوم فلا أحد سيعاقبه، وهذا يعني أن ما من أحد يسأل عنه أو يهتم لأمره . والحفري بذلك أشار إلى كفاءة وجدارة وقدرة الكاتب على تحريك مكنوناته الساكنة وذكرياته ومزجها مع ما يقدمه من فن ليخرج لنا بلوحات بهية تشبه عيسى الذي كان التجريب هاجساً من هواجسه:
سقط الثلج واختبأ العصفور
كان المساء
وكنتُ وحيداً
ورأى الحفري أن عيسى يصر كشاعر على أن يكون إشكالياً، فليس من السهل فهم ما يقوله، وهذا هو التوَهان والتمرد:
تعال نمحو أسماءنا من ألواحه
قالت أنا الواجدُ وأنت الخارج عن وحدتي
إياك أن تنظر إليَّ فتخرج مني
وكون الحفري ينتمي إلى السرد أكثر من غيره من الفنون أشار إلى أن كل نص لعيسى يحوّل إلى نص سردي أو فعل درامي لأن كل نص ينتمي إلى حكاية أو جذر حكائي ولم يأت هكذا للتزيين أو جمع المفردات والجمل البراقة كما يفعل بعضهم.
وختم الحفري كلامه مؤكداً على أن عيسى شاعر إشكالي ومثير ومحيّر، وهو جميل ومتوحش في عزلته ومتفهم للآخر إلى أبعد الحدود، وهو ريفي وبدوي ومدني، متمنياً له التوفيق الدائم وأن تبقى رائحة البراري رفيقة لصيقة لقلبه الجميل.

أمينة عباس