ثقافةصحيفة البعث

“بغداد مدينة السلام” وثيقة تاريخية أدبية لبغداد

يأتي كتاب “بغداد مدينة السلام” ضمن سلسلة الكتب التي يصدرها د. رحيم الشمخي عن تاريخ العراق إلا أنه اعتمد في هذا الكتاب على التوثيق بالدرجة الأولى لسير الأعلام والخلفاء، وعلى تدوين الكثير من أبيات الشعر مبتعداً عن التوصيف، مركزاً على الآداب والسلوكيات في المجالس، فغدا هذا الكتاب وثيقة تاريخية أدبية.

وبيّن الكاتب منذ الصفحات الأولى بأن بغداد مدينة السلام لأنها تحتوي عدداً كبيراً من دور القراء منذ 310هجرية، وأنها منبت العلماء والفضلاء ومرتاد الدارسين والمتعلمين ومنتجع الطالبين والمستفيدين، وتوقف عند الإمام الكسائي الذي انتهت إليه رئاسة الإقراء في الكوفة، وهو أحد القراء السبعة وأُلفت في قراءاته كتب عدة، وتابع عن تلامذته ومنهم القاضي- أبو الفرج المعافي بن زكريا- ليصل الكاتب إلى الدور الكبير الذي قامت به بغداد في تحفيظ القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.

وتطرق الكاتب إلى دور الإسلام في حثّ المسلمين على طلب العلم لاسيما أولي الأمر من الخلفاء العباسيين، كمدخل للحديث عن شخصية الخليفة أبي جعفر المنصور باني مدينة العلم بغداد، إذ اشتُهر بثقافته الواسعة وتوجيهه العلماء نحو ترجمة علوم الأمم الأخرى في الطب والمنطق والفلسفة، واهتمامه بعلم الفلك من خلال تكليف عالم هندي بالفلك كان برفقة وفد يزور بغداد بترجمة كتاب عن اللغة السنسكريتية –لغة الهند القديمة- إلى اللغة العربية، وكذلك ضم الوفد عالماً آخر في الحساب اسمه كانكا، فكلفه المنصور بترجمته إلى اللغة العربية، وفي عصر المنصور حدثت نهضة كبيرة بتدوين الحديث والفقه والتفسير والعلوم كابن جريج في مكة، ومالك في المدينة والأوزاعي في الشام وغيرهم.

بشار بن برد وسيبويه

وانتقل الكاتب إلى ابن المنصور محمد المهدي مؤسس مدينة الرصافة وكان ذا ثقافة واسعة وتصدى للشعوبية والزندقة بتشجيعه الأدباء والمفكرين لتأليف الكتب عن مفاخر العرب وبطولاتهم، وعن فصاحة اللغة العربية وتفوقها على اللغات الأعجمية، مستنداً إلى وصفه بأنه جواد وعالم وحليم وورع وعمت سياسته العادلة بين الناس، حتى لُقب براهب بني عباس، وقد بنى جامع الرصافة وقصر السلام،  ومن شعرائه بشار بن برد وأبو العتاهية.

وتابع الكاتب سيرة الخلفاء وصولاً إلى هارون الرشيد المشهور بحبّ العلم وباحتضانه العلماء والشعراء إذ عمل على تطوير خزانة الحكمة التي ألّفها المنصور لتؤدي دور المؤسسة العلمية الرائدة في البحث والترجمة، وجلب المؤلفات اليونانية في الفلسفة والمنطق والطب وأنشأ مستشفى في بغداد سماه باسمه، إلى جانب اهتمامه بعلوم القرآن والحديث والفقه، وضمت مجالسه خيرة علماء اللغة والأدب والشعر، وعالم النحو سيبويه، وأحب الشعر لاسيما شعر المديح فكان يقارن بين الأبيات الشعرية العربية ويميز الأصيل من المنقول، وكذلك المأمون وُصف بسعة العلم والميل إلى القياس العقلي.

 

الجامعة المستنصرية

إلى أن وصل إلى الخليفة المسترشد بالله الذي ولي الخلافة عام 512هجرية، الذي اهتم بعلم الحديث وبشؤون التعليم فكان يعين بنفسه المدرسين في مدارس بغداد مثل النظامية، وضم مجلسه عدداً من الشعراء مثل ابن الأفلح حتى إنه أقدم على نظم قصائد تشدد على الإقدام والبسالة في ساحات الوغى:

قالوا: تقيم وقد أحاط بك العدو ولا تفر

فأجبتهم: المرء ما لم يتعظ بالوعد نمر

وكان الخليفة أبو جعفر المنصور الملقب بالمستنصر بالله الذي ولي الخلافة عام 623هجرية ذا علم وعمل وعفو وحلم وكان داعماً للفقهاء والعلماء، فكثر في أيامه تجويد الخط والكتابة، مما دفعه لتأسيس أول جامعة بالعراق والعالم الإسلامي وهي الجامعة المستنصرية التي درست العلوم الدينية والعقلية وفق المذاهب الأربعة وزودها بالعلماء من المدرسين في كل مذهب، وعمل على صيغة الإعارة فاستقدم الشارمساحي في المذهب المالكي للتدريب في الناصرية، وجمع فيها مسائل الدين ومذاهب المسلمين وعلم الأصول والفروع وعلم القوافي وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم الحساب والمساحات وعلم الطب ومنافع الحيوان وافتتحت عام 631هجرية 1233ميلادي،  بحضور العلماء والأدباء والشعراء.

آداب المجالس

وتطرق الكاتب في كتابه إلى آداب المجالس في التراث العربي من خلال مجالس الخلفاء في بغداد فكان لها آداب ورسوم، بدأت بشكل بسيط في العصر الراشدي وكانت تعقد في المسجد لأمور تخص الإسلام وإرسال الجيوش والمعارك، وحينما انتقلت الخلافة إلى الأمويين وأصبحت دمشق عاصمة الدولة العربية واتسعت الدولة تعددت جوانب المجالس، وأسس الأمويون  مجالس آداب الحديث والاستماع وآداب الطعام على مائدة الخلفاء ومراسم لإنهاء مجلس الخليفة، وتوضحت صورة المجالس في العصر العباسي فأصبحت مادة للتأليف يكتب عنها في الكتب الأدبية، منها ما كتبه الجاحظ في البيان والتبيين، ومنها ما كتبه ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد، وكانت هذه المجالس بمثابة مدارس علمية تطرح فيها القضايا المختلفة وتناقش فنون المعرفة والقضايا العلمية والدينية والأدبية، والأمر اللافت مشاركة الخليفة بالمجالس. ليخلص الكاتب إلى أن هذه المجالس كانت اللبنات الأولى لحضارة بغداد.

نزار قباني وبغداد

وأفرد الكاتب فصولاً للعلوم التي انتشرت في بغداد مثل الترجمة وعلم الفلك والرياضيات والهندسة والبناء لينهي كتابه بأجمل الوثائق الشعرية والنثرية التي تغنت ببغداد مثل قول ابن الرومي والبياضي والصابي والهمذاني وصولاً إلى الشاعر العربي نزار قباني:

عيناك يا بغداد منذ طفولتي شمسان نائمتان في أهدابي

جاء كتاب” بغداد مدينة السلام” للكاتب د. رحيم هادي الشمخي – الصادر عن دار العراب- بعشرة فصول و185 صفحة من القطع المتوسط.

ملده شويكاني