ثقافةصحيفة البعث

جلال.. بثينة و”أبو الخيل”.. ليست السلبية ما يُحيي الشخصية الدرامية

 

أكاد أجزم أن أحداً ممن تسنّى له متابعة مسلسل “ليس سراباً” يمكنه الادعاء أن بعضاً من شخصيات العمل لم تلتصق بذاكرته إلى الآن ولو بشكل جزئي، ولكنه الجزئي المؤثر والفاعل.
المسلسل الذي أنتج في العام 2008 ويحكي قصة العلاقة المميزة بين صديقي الطفولة “ميشيل” الذي يعمل في سلك المحاماة وجسد الشخصية الممثل “سلوم حداد” انتقل للعمل الصحفي وأسس مجلته الخاصة ينشر فيها مقالاته التي تحمل مواضيع ذات طابع خاص وجريء أثارت الجدل والانتقاد، وبين صديقه الكاتب العلماني جلال/ جسد الدور الممثل عباس النوري/ المثقف صاحب المبادئ، شخصية أظهرت تصالحها مع ذاتها دائماً وخصوصاً حين دخلت “حنان/ كاريس بشار” حياته وبدأت علاقتهما المميزة والجادة، حينها لم يجد حرجاً في أن يكون هو ذاته كتاباً مفتوحاً أمام الجميع وأمامها على الخصوص، صفحاته مشرعة تقرأ فيها تجاربه بكل وضوح دون رتوش فتتقبله بكل حب، ليبقى حتى النهاية وحتى لحظة رحيله المفاجئ والصاعق، وفياً لمبادئه دافع عنها وعن حكاية الحب المرفوض اجتماعياً بكل جوارحه وبكل وسيلة متاحة لديه سواء بالقلم أو الكلمة وحتى من خلال تقبله الصادق لعلاقات الآخرين، وقبوله للآخر المختلف معه فكراً وعقيدة، مقدماً صورة المثقف “الإنسان” بكل ما يمكن لتلك الكلمة أن تحمل من صفات، إذ لم يقدم نفسه قديساً منزهاً، ولم يكن في المقابل شخصية سلبية صادمة بمعنى “القبضاي” أو ذاك الذي يتباهى بقدراته على تجاوز التوقعات أو الأعراف والقوانين.
لكنه وعلى تلك الصورة كان الشخصية القادرة على اجتذاب المتلقي، وإحداث الأثر فيه بل لعله كان نجماً “ليس بمعنى نجومية الفنان وشهرته” بل النجم القدوة ربما لجيل من المتلقين الشباب في تلك الفترة الزمنية.
بالمقابل لم تغادرني يوماً “بثينة/سلافة معمار” في مسلسل “زمن العار” الذي أنتج في العام 2009 ، دراما واقعية حول هوية ووجدان مجتمع محدد، ويحكي حكاية تلك الفتاة المغلوبة على أمرها التي رهنت حياتها في خدمة عائلتها ووالدتها التي أقعدها المرض، تَعُضّ على رغباتها وسنوات عمرها الهاربة ومشاعرها التي حاولت اللحاق بها في لحظة وضعتها في مواجهة قيم وأعراف محيطها وأدخلتها دائرة العار، بثينة أيضاً لم تكن تلك الشخصية الطوباوية أو القديسة، الحال الذي فرضته عليها الظروف والمجتمع بل كان لها جانبها السلبي وإن كان ارتداد أثره عليها بشكل عام، لكنها مازالت تستعاد كشخصية درامية تمت صناعتها ببراعة. هذا العام وفي رمضان الفائت كان لمسلسل “فوضى” الذي عدّ بشكلٍ ما من الأعمال التي تترك بوابة الأمل مفتوحة لصناعة الدراما السورية الخالصة، أو أنه قدم لنا على الأقل توليفة من الشخصيات تمت صياغتها بإتقان فتركت أثرها لدى المشاهد وعلى المدى البعيد، كان لأبي الخيل القدرة الأكبر على احتلال مكانته في ذاكرته والتي ستستمر طويلاً، الدور الذي جسده الممثل “فادي صبيح” والذي كان الحامل الأكبر لعمل يحتاج لأكثر من مشاهدة واحدة لاستيعاب الشخصيات التي قدمها سواء من حيث الكم والأبعاد النفسية.
“أبو الخيل” الذي يعمل في ورشة لتصليح السيارات في الحي الشعبي حيث اجتمعت كل متناقضات ومفرزات الحرب، قدم لنا دوراً مركباً ومعقداً، يقوى على الحياة من خلال الموازنة ما بين علاقته المريبة بأبي ربيع وبين الحفاظ على مصدر رزقه إلى جانب بيعه للممنوعات، ويعيش قصة حب صادقة مع “وصال” التي نزحت وابنتها إلى الحي، “عمنا” كان قادراً على حجز مكانته الخاصة في قلوب المشاهدين بشخصيته العفوية وتناقضاتها و”تفلتات” لسانه التي اتكأت على الكوميديا الخفيفة أحياناً والجدية أحياناً أخرى و”ابن البلد” إن تطلّب الأمر. بمعنى أنه يمكن للدراما أن تقدم شخصيات قادرة في حال أجيد صنعها،على أن تكون آسرة وجذابة للمتلقي بغض النظر عن بساطتها أو ثقلها بدون أن تنحو بها إلى السلبية أو مافياوية تبني وجودها على القتل والسرقة ومجابهة السلطات والعيش كما الوطاويط التي لا تظهر إلاّ في الظلام.
جميعها شخصيات حقيقية لم تكن طوباوية كلياً ولم تكن سلبية بالكامل لكنها مازالت تستحضر أينما ذكرت الدراما الفاعلة دون اللجوء لتقديم الأجزاء متكررة كما يحدث للبعض من الأعمال الدرامية التي اعتمدت في كسب جماهيريتها ومشاهديها على جاذبية لافتة للبطل والشخصية السلبية التي تتحدى القانون والزعامة التي تُحكم قيادتها للعصابة المطعمة بشيء من النخوة والشهامة من هنا وهناك، دون الالتفات إلى تداعياتها السلبية والخطرة التي تكرس تلك الشخصيات قدوة ومثالاً لجيل من الشباب ومشاهدين أرهقتهم “زومبيات” هذه الحرب بالتخمة.
بشرى الحكيم