ثقافةصحيفة البعث

“بخور عدني”.. الرسالة المخفية ما بين السطور

 

 

بقيت الحروب على الدوام، بعيداً عن كل النتائج التي تنتهي إليها وبالنسبة إلى جميع الأطراف المتحاربة؛ بقيت حاملة للطبيعة الكارثية، تلك التي تأتي على البشر فتكون المفصل والمنعطف الأقسى في حيواتهم، وهي غالباً ما تخلعهم منها لتنقلهم إلى أخرى لا تشبهها وبطريقة لا إنسانية.
وروايتنا هنا تتحدث عن مدينة عدن في الفترة ما بين الأربعينيات والستينيات، من خلال ملاحقة حكاية شاب فرنسي يعمد إلى التهرب من خوض معارك شاركت فيها بلاده في الحرب العالمية الثانية، وتأخذه الظروف إلى عدن المدينة اليمنية الجميلة المعروفة باحتضانها للعديد من الجنسيات وأصحاب الانتماءات المختلفة لا تفرق بينهم بل تتعامل معهم كأبناء لها، وهناك تجمع الأحداث الأصدقاء الثلاثة “ميشيل، فرانسوا، وفرانك” ثلاثة قد جمعت بينهم فكرة الفرار من الحرب رغم اختلاف أسباب كل واحد منهم عن الآخر.

هوية وضياع
“انشغل ذهني في كيفية تحقيق ما أرغب فيه، وتاه في الأسئلة، هل أريد فعلاً أن أخفي الهوية التي أحملها؟ لم أعد في الحقيقة أقوى على تجميع ملامح هذه الهوية أو تشخيصها، بما في ذلك ثقل العرج المصاحب لي. أسال نفسي: فرانسوا أم ميشيل؟ لقد صرت أصدق نفسي، حيناً أنني من لندن، وحيناً آخر من نيويورك، أو من فلورنسا، أو من مرسيليا”. وهو الشك الذي رافق البطل والقارئ على السواء حتى النهاية.
على أن فكرة الفرار من تلك الكارثة التي تدعى الحرب لم تكن غاية الرواية والكاتب اليمني “على المقري” بل هو عمد إلى اتخاذ هذا الحدث التاريخي وعملية التهرب من المشاركة فيه حجة ومتكأً للحديث عن عاصمة اليمن الاقتصادية وما شهدته من تغيّرات طرأت عليها وفرضتها تبعات الحرب خلال سنوات متتالية من الزمن.

قناعات
سيعمد فرانسوا إلى انتحال شخصية صديقه ميشيل كي يتنصل من المشاركة في الأعمال القتالية والفرار منها، وخلال تلك العملية سيقوم باطلاع القارئ على طبيعة الحياة في تلك البقعة الجميلة من اليمن السعيد، ليس لدى فرانسوا أي حجة تبرر وتمنع مشاركته في الحرب سوى قناعاته، فهو معافى ويمتلك القدرة الكافية لحمل السلاح كغيره من أبناء البلد لكنه يمتلك قناعات رافضة لها، هكذا يتبادل شخصيته بشخصية صديقه ميشيل الذي يعاني من عرج خلقي بسبب قِصَرِ في إحدى ساقيه، ليصل إلى عدن وقد بات شخصاً آخر لا يعرف عنه شيئاً ولا علاقة له بما كان عليه في السابق، حتى أن التغيير لم يكن طارئاً عليه وحده وما رآه جعله متيقناً أنه طال الجميع ولم يعودوا كما عرفهم من قبل.
لكن فرانسوا سيجد طريقه للاندماج في المجتمع المغاير كلياً لمجتمعه السابق ويصبح واحداً من أفراده، تتلقفه “ماما” ساعة وصوله إلى المدينة “استغربت من اللقب الذي نادتني به، فراحت تفهمني أنها تنطق ما اعتبرته اسمي: أي شيء بلهجة عربية خفيفة”. تؤمن “ماما” مكاناً لإقامته وتعمده بالبخور العدني المعروف “شغلتني الرائحة طوال الطريق إلى الكازينو، أحسست وأنا أتحدث إلى ماما أنني لم أعد ذلك الشخص الذي كنته قبل ساعة النوم، لقد صرت برائحة، بل شعرت أن كلماتي أيضاً صار لها رائحة، وأن البخور يقاسمني إياها، أو أنها صارت كلمات مبخّرة” ويعمد لاحقاً إلى تعلم اللغة العربية كي يضمن عملاً مناسباً له “وافق الشيخ الأربعيني أن يعطيني دروساً مكثفة في فترتين صباحية ومسائية “يبدو أنك شغوف باللغة العربية كصاحبنا أحمد البريطاني، ألا تكون ترغب في دخول الإسلام مثله؟ قال بلغة إنجليزية متأنية الوضوح، وهو يشير إلى الشاب الجالس بجواره، أوضحت أنني ما زلت في حال هرب ولا أعرف إلى أين. صدقت، ابقَ هارباً طول عمرك، هذا أحسن لك، قال العارف، أمام استغراب تلميذه البريطاني المسلم، وابتسامة ماما التي بدت أنها تعرفه كثيراً”.
ويقرر القادم الجديد أن يلغي من ذاكرته حياته السابقة وحبيبته السابقة أيضاً شانتال “الاسم الجامع بين الثلاثة ميشيل وفرانسوا وفرانك، وهو الاسم نفسه الذي يفرقهم ويشعل أحقادهم ضد بعضهم البعض، فرانك بمشاكسته مع البنات وتألقه في لعبة كرة القدم والتمثيل الكوميدي على مسرح المدرسة وعتبات بيوت الحي، كان هو الأكثر إثارة لتصرفات فرانسوا التنافسية من أجل أن يحظى باهتمام شانتال وحده”.
وها هو يذوب حباً بالمغنية “شمعة” يشارك في كل الاحتفالات التي تكون نجمة الغناء فيها، ويتبعها كظلها، لا يرى سواها، هي التي لا شيء أسهل عليها من استبدال الزوج بآخر في غمضة عين.

تحولات وصراعات
وعبر قصة حب فرانسوا لشمعة نطل على فترة من الزمن تعالت فيها الأصوات منادية بالاستقلال والتحرر من الاستعمار، حيث شهدت البلاد العديد من التحولات السياسية والاجتماعية، وصراعات أحزاب تنافست على المغانم والمناصب، فترة أدخلت البلاد في حال لم تعتادها إذ تفشت فيها أحداث عنف لم تعرفها من قبل وظهرت بذور التطرف الديني فعم الرعب الأجواء “لقد ذبح العارف مع قبوة ووجدوا رأسيهما مرميين إلى جوار جسديهما في ميدان كريتر، مع ظهور أول ضوء من نهار يوم ربيعي حار” هكذا تبدأ المدينة افتقاد المسوغات التي دفعت الهاربين من الحروب اللجوء إليها، ما أدخل بطل الرواية الذي قارب الانصهار في المجتمع الجديد، في دوامة السؤال عن معنى الهوية وامتلاك الفرد لها، بل أدخلته في شك لمعنى الانتماء للوطن وما يحمله من معنى وقد شعر في وقت ما أنه أصبح عدنياً كاملاً: “من قال لك أن الوطن كذبة كبيرة، هل كنت تحلم؟ هل صدّقت أن الوطن وهم وعبرت كل هذه المسافة لتبحث عن بديل عنه؟ أو قل إنك لم تكن هو، أو لم تكن أنت. أليس اللاوطن هو وهم، أيضاً؟ بم تفكر؟ هل صرت الآن تعرف معنى كريتر، اسم عدن؟ ستتباهى بالقول أنك عشت حياتك الأخرى في عدن، وهذا يكفي؛ وأنك كنت في زمن ما، عدنياً” وهو السؤال الأهم: هل يمكن للحروب أن تُحِل الأوطان البديلة مكانة الأصيلةّ؟!.

الرسالة المخفية
رغم أجواء التشويق والغموض التي رافقت بطل الرواية إلا أن الملل يتسرب إلى القارئ وهو يتابع سرداً مطولاً لبعض المناسبات والعادات السائدة، ولعل الكاتب الذي عمد إلى التركيز على عدن كمدينة متسامحة وحاضنة لكل القادمين إليها برغم اختلاف انتماءاتهم، في محاولة لإيصال رسالته إلى المتلقي بالتسامح والتعايش وقبول الآخر، ورغم التساؤلات التي ولّدتها الرواية فهو قد أوقع نفسه في فخ استدرار التعاطف مع اليهود من خلال إفراد مساحة واسعة للمغنية اليهودية “شمعة” وصاحب الدكان يعقوب وسواهما من شخصيات ذات انتماء محدد، بينما كان مروره على فترة مفصلية في تاريخ المنطقة ما بعد الاستقلال ورحيل الاستعمار الفرنسي في العام 1967، والأحداث التي غيرت مجرى الحياة السياسية في المدينة مروراً خجولاً ومختصراً، ما يرسم إشارة استفهام كبيرة في ذهن القارئ الباحث خلف سطور الرواية.
يبقى أن كاتب الرواية “علي المقري” هو روائي وشاعر وصحافي يمني، بدأ كتابة الأدب مبكراً وهو في الثامنة عشرة من عمره، لديه عدة مجموعات شعرية، وأربع روايات هي: “طعم أسود رائحة سوداء” التي وصلت في العام 2009 إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر ورواية “اليهودي الحالي” التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2011 ثم روايتيه “حرمة” و”بخور عدني”. وقد حظيت أعماله بالترجمة إلى اللغات الإيطالية والفرنسية والإنكليزية.
بشرى الحكيم