دراساتصحيفة البعث

الأسلحة الجرثومية.. علامة حصرية بأمريكا

ترجمة وإعداد: هيفاء علي

في السادس من تشرين الأول الجاري، دقّ العلماء ناقوس الخطر حول برنامج الأسلحة الجرثومية الأمريكية بعد ظهور الدلائل الأخيرة على اختبار المواد البيولوجية القاتلة في تبليسي في جورجيا، إضافة إلى مخاوف بشأن نشاط الأبحاث الأسلحة البيولوجية الأمريكية في بعض الدول الأجنبية. ويشعر العلماء الأوروبيون بقلق بالغ إزاء برنامج بحث جديد مريب بتمويل من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، والذي يبدو أنه ينشر الأمراض على المحاصيل والحيوانات والبشر في الخارج. ورغم وجود القانون الوطني والدولي الذي يحظر إنشاء مثل هذه الأسلحة والوسائل الخاصة لتوزيعها، إلا أن الولايات المتحدة تقود أبحاثاً حول الأسلحة البيولوجية في أرجاء العالم كلها.

يقوم علماء الحرب البيولوجية، باختبار الفيروسات ذات المنشأ البشري في مختبرات البنتاغون البيولوجية، المنتشرة في 25 دولة حول العالم مستخدمين الغطاء الدبلوماسي، ويتمّ تمويل هذه المختبرات من قبل  وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة “داربا” كجزء من برنامج عسكري تُقدّر ميزانيته بـ 2.1 مليار دولار، هو برنامج “المشاركة البيولوجية التعاونية”، وتقع في جورجيا وأوكرانيا، وفي الشرق الأوسط، وجنوب شرق آسيا وأفريقيا.

حتى منتصف السبعينيات، كان الجيش الأمريكي يختبر أسلحة الحرب البيولوجية على سكان الولايات المتحدة على نطاق واسع وعلى سلالات علمية، ولكن بعد أن كشف تحقيق للكونغرس عن حجم البرنامج وخطورته، تمّ نقل هذه الاختبارات إلى الخارج، حيث تستخدم الشركات الخاصة المختبرات التي تسيطر عليها الحكومة الأمريكية في الدول الأجنبية لإجراء أبحاث بيولوجية سرية بموجب عقد أبرمته مع الجيش الأمريكي، ووكالة الاستخبارات المركزية ومكتب الأمن القومي. في الشهر الماضي، قالت الصحفية البلغارية “ديليانا غايتاندزيفا” عن أحد هذه المختبرات البيولوجية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة: “تنقل سفارة الولايات المتحدة في تبليسي دماء بشرية مجمّدة وعوامل الأمراض على شكل شحنات دبلوماسية من أجل البرنامج العسكري الأمريكي السري. وقد تمّ الكشف عن وثائق داخلية تثبت تورط دبلوماسيين أمريكيين في نقل واختبار مسبّبات الأمراض تحت الغطاء الدبلوماسي، من قبل المطلعين الجورجيين. ووفقاً لهذه الوثائق، أرسل علماء من البنتاغون إلى جمهورية جورجيا ومنحتهم الحكومة الحصانة الدبلوماسية لإجراء البحوث حول الأمراض الفتاكة، والحشرات القارصة في مركز “لوغار”، المختبر البيولوجي  الأمريكي في تبليسي”.

مؤخراً، اتهمت وزارتا الدفاع والخارجية الروسيتان الولايات المتحدة بإجراء أبحاث الأسلحة البيولوجية غير القانونية في مختبر تبليسي بعدما حذّر الجيش الروسي من خطورة وجود هذا المركز الأمريكي السري بجوار روسيا بعد دراسة الملفات التي قدمها له وزير جورجي سابق.

يشير عدد من الوثائق إلى وفاة 73 شخصاً في فترة زمنية وجيزة، ما يؤكد أنها اختبار للعوامل الكيميائية أو البيولوجية شديدة السمية والفتاكة. وقد رفضت الولايات المتحدة هذه الادعاءات دون تقديم أي تفسير لهذه الوثائق المسربة وتفسير نوع عمليات البحث التي تمّت بالقرب من تبليسي، والسرية والأمان غير العاديين المحيطين بهذا المختبر. ولم يقتصر القلق من الأبحاث السرية الأمريكية حول الحرب البيولوجية على روسيا وجورجيا، بل عبّرت عنه كلّ من فرنسا وألمانيا عندما أطلق العلماء الألمان والفرنسيون الإنذار حول مشروع أبحاث آخر للبنتاغون يُسمّى
” الحشرات المهجنة”.

يوشك البرنامج الجديد على تقديم بديل لمواجهة التهديد الزراعي التقليدي، وذلك باستخدام العلاج الجيني المستهدف لحماية النباتات الناضجة خلال دورة نموها. ويقترح البرنامج  الاعتماد على نظام الولادة الطبيعية الفعّالة جداً عبر خطوتين لنقل الجينات المعدلة إلى النباتات، وهي الحشرات الناقلة لفيروس المزروعات التي تنشرها هذه المراكز، ويهدف البرنامج إلى تحويل بعض الآفات الحشرية إلى “الحشرات الهجينة”، ومن هنا جاء اسم المشروع الجديد.

المشروع معقّد للغاية، فمثلاً إذا كان محصول الذرة مصاباً إلى حدّ كبير بمرض ما، فسيتمّ التلاعب بالفيروس ومن ثم تطبيقه على المحصول. الفيروس المعدّل وراثياً هو نفسه قد يغيّر  الزراعة وراثياً “لمعالجة” المرض، وعليه سوف تُستخدم الحشرات المصابة لنشر الفيروسات في الحقول. البرنامج يديره  مكتب التكنولوجيا البيولوجية التابع للبنتاغون، وقُدّرت تكلفته بما لا يقلّ عن 27 مليون دولار. فإذا كان البرنامج الذي يدور الجدل حوله قد أُطلق لأغراض زراعية بحتة، فلماذا تقوم  وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة في البنتاغون بتمويل مثل هذه الأبحاث؟!.

هذا التساؤل المشروع طرحه علماء ألمان وفرنسيون من معهد “ماكس بلانك” للبيولوجية المتطورة، وكذلك محامون من جامعة “فريبورغ”، وجميعهم أكدوا أن الهدف المبيّت من المشروع لا علاقة له بالأهداف الزراعية المعلنة، فيما تساءلت مجلة العلوم الأمريكية ما إذا كان المشروع جزءاً من برنامج أبحاث زراعية، أم إنه نظام جديد للأسلحة البيولوجية؟. حقيقة، يهدف المشروع إلى توزيع ونشر الفيروسات المعدية المعدلة وراثياً التي تمّ تصميمها لتغيير الصبغيات في المزروعات مباشرة في الحقول.

في سياق الأهداف المعلنة لبرنامج وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة “داربا”، يعتقد العلماء أن المعرفة التي يجب الحصول عليها بموجب هذا البرنامج تبدو محدودة للغاية من حيث القدرة على تحسين الزراعة في الولايات المتحدة، أو الاستجابة لحالات الطوارئ الوطنية (قصيرة أو طويلة الأجل). إضافة إلى ذلك، لم يكن هناك مناقشة كافية للعوائق العملية والتنظيمية الرئيسية التي تحول دون تحقيق الفوائد الزراعية المتوخاة. لذلك، يمكن اعتبار البرنامج على نطاق واسع بأنه محاولة لتطوير العوامل البيولوجية ونواقلها لأغراض عدائية، والتي، إذا ما ثبتت صحتها، فهي انتهاك صارخ لاتفاقية الأسلحة البيولوجية (CWBI). بالمقابل تؤكد “داربا” مرة أخرى أن البرنامج له أغراض زراعية بحتة، لكن هذه الإجابة ليست كافية لإقناع العلماء والردّ على تساؤلاتهم.

آلية نشر الفيروسات المعدية المعدلة وراثياً لتعديل المزروعات وراثياً وعلاجها في الحقول هي في حدّ ذاتها مصدر للمشكلات ومحفوفة بالمخاطر، واستخدام الحشرات لنشر هذه الفيروسات هو ضرب من الجنون.

إذا كان لدى “داربا” الحق في الوصول إلى حقول المحاصيل المستهدفة، وإذا كان لديها فيروس معدل وراثياً لتحسين ومعالجة  النباتات، فلماذا تستخدم الحشرات لتوزيعها ونشرها؟ لماذا لا تستخدم الطريقة المعروفة في رش الحقول المصابة، كما هي الحال اليوم؟ لذلك فكرة أن الهدف الحقيقي وغير القانوني لهذه الأبحاث الأمريكية هو الحرب البيولوجية ليس مبالغاً فيها على الإطلاق.

وللتأكيد على هذه الفكرة، خلال الحرب الكورية، أسقطت الولايات المتحدة الحشرات والقوارض المصابة على كوريا الديمقراطية والصين لتصيب السكان بالأمراض القاتلة. تمّ استخدام العديد من مسبّبات الأمراض، بما فيها الجمرات الخبيثة ضد السكان المدنيين. كما أنه إبان حرب فيتنام كانت الولايات المتحدة ترش المواد المنغولية السامة على مدى آلاف الكيلومترات المربعة. وأجرت اختبارات عديدة للأسلحة البيولوجية على السكان في هاواي وألاسكا وميريلاند وفلوريدا وكندا وبريطانيا. وفي عام 2002، استُخدمت جراثيم الجمرة الخبيثة العسكرية من مختبر الحرب البيولوجية الأمريكي لدبّ الخوف في قلوب السياسيين في جميع أنحاء البلاد ودفعهم إلى  قبول قانون “باتريوت”، ما أدى إلى مقتل ما لا يقلّ عن خمسة أشخاص.

لماذا تبحث القوات الجوية الأمريكية عن عيّنات من النسيج الزليلي والحمض النووي الريبي وجمعها بشكل خاص من قوقازيين في روسيا؟.

إن برامج الحرب البيولوجية خطيرة للغاية ليس فقط “للعدو”، وإنما تشكل خطراً أكبر على الأمريكيين أنفسهم، فهي مرشحة لنشر الأمراض المعدية ومسبّبات الأمراض في جميع أنحاء العالم في غضون أيام، والتعديلات الوراثية يمكن أن يكون لها آثار جانبية غير متوقعة. كما يمكن للفيروسات عبور حاجز الأنواع. والولايات المتحدة تحظر طرح هذه الأسباب الموجبة لمنع مثل هذه الأسلحة والبحث عن استخدامها، لذلك يتعيّن على الإدارة الأمريكية الالتزام بالقانون وإنهاء كلّ هذه البرامج القاتلة، على الأقل من أجل حماية شعبها.