دراساتصحيفة البعث

الصين ليســت لاعـبــاً اقتــصــاديــاً فقط

سمر سامي السمارة

انتهت هيمنة الولايات المتحدة التي كانت تتمتّع بها خلال الفترة الانتقالية في أعقاب الحرب الباردة، فعالم متعدّد الأقطاب في طريقه للعودة مع ظهور الصين كقوة عظمى تلعب دوراً متميزاً بشكل متزايد فيه.

يؤرق هذا الواقع الجديد واشنطن كثيراً، خاصة مع التعزيزات المستمرة للقوات المسلحة الصينية، التي تحاول -رغم الزيادة المستمرة لنصيب النفقات العسكرية الأمريكية في الميزانية- “عدم التخلف” عن تطور القوات المسلحة الأمريكية.

فعلياً تتجاوز النفقات العسكرية للبلدين نفقات الدول الأخرى، وقد تصل ميزانية الدفاع الأمريكية إلى 800 مليار دولار بحلول عام 2023، مع إمكانية  تجاوز الميزانية الصينية 300 مليار دولار، بينما لم تنفق أي قوة عالمية أخرى أكثر من 80 مليار دولار سنوياً على قواتها المسلحة.

وفي عام 2018 تجاوزت النفقات الدفاعية لجمهورية الصين الشعبية 200 مليار دولار ما يدلّ على ازديادها ثلاثة أضعاف منذ عام 2002. وقد أعادت توجيه التمويل للحصول على التقنيات العسكرية بغضّ النظر عن التكلفة، لذا سيكون لدى القوات المسلحة الصينية الأنظمة الهجومية والدفاعية المتطورة في المستقبل القريب. وبحسب تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية المنشور في 15 كانون الثاني حقّق ثاني أكبر اقتصاد في العالم هذا الإنجاز البارز نتيجة للتحديث الكبير الذي قام به في السنوات الأخيرة والذي يكمن هدفه الاستراتيجي بتشكيل زيادة نوعية في قدرة الجيش الصيني القتالية.

لذلك، كان تقدم بكين في تطوير جيشها، محطّ اهتمام الاستخبارات العسكرية الأمريكية في الآونة الأخيرة، بهدف تتبعها لكل المستجدات في تجهيزات وأنشطة جيش تحرير الصين الشعبية. فقد أولت واشنطن اهتماماً خاصاً لبيان جيش تحرير الصين الشعبية الأخير حول التغييرات الهيكلية الكبيرة التي تهدف إلى تحويل الجيش الصيني إلى قوة قتالية حديثة. وقد جاء هذا التحوّل نتيجة تراجع دور القتال البري الذي كان يحدّد نتائج أي صراع طيلة القرن العشرين تقريباً منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه أصبح دور القوات البحرية والقوات الجوية والانقسامات الإستراتيجية الجديدة التي تتعامل مع انعكاس التهديدات التكنولوجيا الفائقة مثل الحرب الإلكترونية حاسماً. لهذا السبب، تمّ تخفيض عدد القوات البرية الصينية لمصلحة أشكال أخرى من القوات العسكرية، ضمن إطار ما يُسمّى التحول الهيكلي الاستراتيجي.

التحولات المستجدة كبيرة لدرجة أن عدد أفراد القوات البحرية والجوية وقوات الصواريخ وقوات الدعم الاستراتيجي المسؤولة عن مثل هذه المجالات كالحرب السيبرانية تجاوز 50٪ من إجمالي عدد الجيش الصيني.

ومن هذا المنظور، تشعر الولايات المتحدة بقلق عميق إزاء إمكانية الصين التصدي للولايات المتحدة في الفضاء. وقد نشرت وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية في كانون الثاني 2019 تقريراً حول تحديات الأمن في الفضاء وإمكانيات إمبراطورية الصين. ويشير التقرير بشكل خاص إلى القضية الرئيسية الراهنة ذات الأولوية لبكين في تحويل الصين إلى قوة فضائية عظمى من جميع جوانبها، خاصةً وأن الصين تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة بعدد الأقمار الصناعية النشطة.

يشتمل برنامج بكين الفضائي على عناصر مدنية وعسكرية، وتتفهم قيادة الجيش الصيني تفوق الفضاء باعتباره القدرة على التحكم بفضاء المعلومات ومنع الخصم من الحصول على بيانات مماثلة، والتي تعتبر العنصر الرئيسي للحرب الحديثة. ويعتبر القادة العسكريون الصينيون أن العمليات الفضائية الدفاعية شكل من أشكال احتواء القوات المسلحة الأمريكية ومواجهة عملياتها الهجومية المحتملة في الصراعات العسكرية الإقليمية التي يقوم من خلالها الأمريكيون بتدمير الأقمار الصناعية الصينية والاستيلاء عليها وعلى غيرها من المرافق.

في تقاريرها الأخيرة حول النوايا العسكرية الإستراتيجية لبكين، توصلت وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية إلى بعض الاستنتاجات التي تثير قلقها فيما يتعلق بإحراز تقدم سريع للصين في مجال التقنيات العسكرية المتقدمة خاصة في مجال إنشاء أسلحة تفوق سرعة الصوت، الذي تخلفت فيه الولايات المتحدة.

إلى جانب ذلك، قدم الخبراء العسكريون الأمريكيون أولوية متقدمة لاختبارات الصاروخ الباليستي الصيني الجديد المضاد للسفن والذي أظهر أن حاملات الطائرات الأمريكية في خطر حقيقي، بحسب ما ذكرته صحيفة واشنطن “فري بيكون” بداية شهر تموز 2019. وقد أجريت الاختبارات في بحر الصين الجنوبي حيث يتمّ نشر سفن البحرية الأمريكية على وجه الخصوص. وتمت الإشارة إلى أن استخدام الصواريخ الباليستية المضادة للسفن يتطلب أنظمة مراقبة واستطلاع ذات تقنية متطورة. وبحسب البنتاغون قامت الصين فعلياً بنشر الصواريخ، بينما لا تملك الولايات المتحدة أنظمة صاروخية من هذا النوع، وإمكانيات التصدي لها محدودة وفقاً للموقع.

والأمر المروّع بالنسبة للإدارة الأمريكية أنها لم تنجح بعد في القضاء على مواطن الضعف الخطيرة للجيش الأمريكي فيما يتعلق بالصين. وللأخير تأثير كبير على خصمه الاستراتيجي بفضل التحكم في إمدادات المواد الأساسية. ومن المسلّم به أن ترسانة الأسلحة الأمريكية الحديثة بأكملها بدءاً من صواريخ “توماهوك” إلى المقاتلات من طراز “F-35” ، تعتمد بشكل كلي على إنتاج المكونات التي يتمّ تصنيعها لاستخدام عناصر الأرض النادرة والمصنّعة وبشكل حصري في الصين. لذلك، فإن واشنطن مجبرة على الاعتراف إلى حدّ بعيد بأن الفرص العسكرية للولايات المتحدة في يد الدولة التي تعتبرها الآن وكالات الأمن القومي الأمريكية منافساً استراتيجياً إلى حدّ كبير. وإلى الآن لا تعرف الولايات المتحدة كيفية حل معضلة الأرض النادرة.

ومن هذا المنظور، استناداً إلى خلفية التفاقم الأخير للعلاقات الأمريكية الصينية التي غذّتها واشنطن، فإن العديد من الخبراء يعتبرون أن الولايات المتحدة أدركت ذلك بعد فوات الأوان، أي بعد أن قرّرت إجبار الصين على الركوع ، وأن هزيمة بكين لن تكون من خلال حرب اقتصادية شاملة فحسب، ولكن أيضاً القيام بأعمال قتالية، حتى الصقور في الولايات المتحدة يفتقرون إلى الشجاعة لتنفيذ السيناريو الثاني اليوم.