ثقافةصحيفة البعث

آخر الزمان

هذا الكم الهائل من النصائح قد لا يسفر عن أي نتيجة فيما لو بقي الحال على ما هو عليه، السعي طيلة النهار لكسب بعض الفكة وشراء الخبز والفاصولياء والأرز وقليل من السكر. هذا هو العنوان العريض لمجمل أيام الشهر، ويأتي عزت الدحروج الذي له باع طويل في الثرثرة ليحدثني عن التجديد والتغيير والنهوض في محاولة لتخليصي من العادات والتقاليد البالية وكأنها وزن زائد.
على هذا، فإن تلك العادات هي مجموعة من اللذائذ تراكمت فوق بعضها وأنتجت عادة بالية، وبذلك يكون أحد مكوناتها شيئاً ظريفاً أو حميما كالتدخين والغراميات العشوائية التي لا تترك أثراً في الذاكرة، والطعام الغني بالسعرات الحرارية (هذا إن توفر). كل تلك مكونات قد أندم على التخلص منها فيما لو اتضح لي أن الأمر كذبة كبرى.
لا أسرار مطلقا بيني وبين زوجتي حميدة تجعلني أميزها عن غيرها من اللواتي عرفتهن في سن المراهقة إلا إذا استثنيت مسألة العيش المشترك الذي وضع حداً لأفقي وجعلني أبحث عن مصدر للبقاء حياً مختبراً بذلك قدرتي على التحمل وصلابتي التي نسيت تاريخ صلاحيتها وبات مصيرها مجهولاً.
لا حديث مشترك يمكنني الاستناد إليه كبوصلة لتأمين الحد الأدنى من المشتركات، وبقي الحال هكذا بدون أي تفاعل إلى أن زحف ذلك المرض اللعين واحتل كبدها بدون سابق شكوى، وها أنا ذا اهتديت مرة أخرى ولعبت بضفائر زوجتي إيماناً مني بأن المصيبة التي تقع لن تشعر بالحرج مني وتذهب، فالمصيبة ابنة الفقر وكل صباح يحمل معه مصيبة جديدة جداً لا تشبه أختها وكأنه قد تزوج آلاف الإناث وأنجب وتكاثر بالزنا والحرام، والغريب أن كل رغباته يشبعها مع البشعات والساقطات، فليس له أي إنتاج يروق لي مطلقاً، أتمنى لو وقعت لي مصيبة جميلة أشعر من خلالها ببعض المتعة كما يحصل في بعض المناطق الجغرافية الأخرى، فأكبر مصائبهم هو موت إوزة أو حادث لكلب أجرب عبرَ الطريق بغباء، أما مصائبي كلها مبتكرة من أخبر مهندسي الغل واللؤم والحقارة.
خمسون عاماً وأنا أحاول تعلم مهنة القتل لكني لم أتعلم سوى إخفاء الجثث، لا يمكنني المجازفة أكثر بتمييع شهوتي وجعلها أكثر تقنيناً كما الكهرباء ومصروف الجيب، شهوتي لا تشبه أي شيء من حولي، لا هي سمراء ولا بيضاء أو مصنوعة من الحديد والبلاستيك، وليست قابلة للتبديل أو التحييز أو النفخ والتنفيس. إنها ربيبة كل الساعات التي بدأت منذ أن ولدت وحتى هذه اللحظة، إنها أمر يتآمر على أمر آخر فيسري المنتصر في عروقي ويهزمني أنا الآخر، ثم أتحول إلى وحش يستطيع التهام كل الطعام وممارسة الحب مع كل النساء دفعةً واحدة.
أنا لست مذنباً يا حميدة، أتضور جوعاً بكل الاتجاهات لعل واحدة منها تنكفئ وأستريح من صريخها.. لماذا تصرون على أنني أحمق؟ من أخبركم بذلك؟.
إن كل همومي لا تخرج عن كونها تتحدث عني أنا ولست معنياً بغيري ولا أتطفل على هموم الآخرين بحثاً عن نسيان همي، وحتى عادتي هذه قد لا تكون مثالية كما تبتغون، ولكنها تناسبني إلى حد ما، تناسب تطلعاتي المحدودة ودائرتي الصغيرة وإمكاناتي البدائية..إنها فوضى أنغمس بكركباتها كأنها أمي، ومع ذلك أشعر بدنو أجلي شيئاً فشيئاً ريثما يأتي قضاء الله فترحل هي إلى دار البقاء وأبقى في دار الفناء، حيث الفناء بأبشع صوره.

المثنى علوش