ثقافةصحيفة البعث

نجوى هدبة يوجعها صوت الكمنجات

 

يكمن جوهر أي فن جيد في بساطة ما يطرحه، ثم تأتي لاحقا كيفية توظيف هذا المفهوم الدّلالي والجمالي، الشرطي والمجازي، في نتاج أدبي ما، كالرواية التي يمكن إذا أردنا أن نضرب مثلا عنها في بساطة طرحها وجوهر هذا الطرح، فلسوف تحضر فورا في البال رواية “نهاية رجل” شجاع” للراحل الكبير “حنا مينه”، وفي المسرح يجيء هذا الجوهر لامعا في العديد من أعمال “شكسبير” وأهمها “روميو وجولييت”،التي كانت بساطة طرحها، هي ما جعلتها من أكثر الأعمال المسرحية شهرة في العالم، أيضا في فنٍ من الفنون البصرية كالفن التشكيلي، تجيء معظم أعمال “فان جوخ”، حاملة نفس الجوهر، الذي يتجلى بواحدة من أهم لوحاته وأكثرها شهرة في العالم الغربي، الا وهي لوحة “ليلة النجوم”، والأمثلة عن هذا الشأن كثيرة، باعتبارها -أي بساطة الطرح-كما سلف وقلنا هي الجوهر الصافي للفنون الجيدة. وهذا ما يبدو جليا وواضحا ومن أول تركيب لغوي يطالعه القارئ، في الديوان الشعري “استميحك عطرا”، للشاعرة “نجوى هدبة”، الصادر عن وزارة الثقافة-الهيئة العامة السورية للكتاب، فالشاعرة ومنذ البداية، اختارت التعامل مع القصيدة، على أنها ناتجُ انفعال لا واعي وغير مباشر، وربما وجدت نفسها دون قرار مسبق منها، يذهب وجدانها أيضا بشكل غير مباشر ومقصود، للتماهي مع أحد أشهر تعاريف الشعر، وذلك بكونه انفعالا حارا لا واع وغير مباشر، ويمكن تشبيه هذا الانفعال اللاشعوري، بفعل من يسحب يده بشكل لا إرادي إذا لمست شيئا ساخنا جدا، لهذا مثلا كان الشاعر الذي يرتجل قصيدته، باعتبار الارتجال يقع ضمن خانة هذا التعريف، هو الأكثر تقديرا عند الناس عن غيره من الشعراء.
تقول الشاعرة في بداية القصيدة الأولى من قصائد المجموعة الـ 118، والتي تحمل عنوانا رمزيا بديعا، يمزج بين الشكل والمضمون برشاقة وعمق، وهو “شامة”، التي تُعتبر من العلامات المميزة عند الناس، المرأة بشكل خاص، عدا عن جماليتها الإيحائية والمباشرة في آن، هي أيضا واحدة من مفردات الجمال الأنثوي، التي تفنن الشعراء في وصفها ووصف حسنها، حتى أنها شُبهت بالقمر، تقول فيها: “هل حدث وتذوقت قهوة بطعم الياسمين؟/أو وضعت زهرتها في كوب شايك الأخضر/هل شممت شاما وهل شربت ماء مُعطرا بها؟/ هل كانت الحلوى بطعم سُكّرها؟/ أنت إذا تعرف أن تُصاب كدمشق بالياسمين”، الجمل الشعرية قصيرة وبسيطة، المفردات المنتقاة في القصيدة، جاءت من اليومي والجاري بين الناس، “قهوة، كوب، حلوى”، لكن الصياغة التي أعادت بها “نجوى هدبة”، ترتيب تلك المفردات، في تعبيرها عما يمور بداخلها، هي من انتجت هذا الجمال الوصفي، البسيط، والذي يمكن أن تكتبه فتاه عاشقة لحبيبها في رسالة عادية، لكن عمق الفكرة وبساطة طرحها، جعلها تُرخي العاطفي والرومانسي، على المزاج العام للقصيدة، حتى يعرف القارئ، أن ما رقّ له قلبه وهو يقرأه، هو في حقيقته، التعبير الاصدق عند الشاعرة، عن علاقتها بـ “شامها”، تلك التي شغفتها حبا، فهي ورغم المخاطرة بحرق قصيدتها في ذلك، تأتي بأكثر وأهم رمزيين مميزين وحاضرين بقوة في وجدان الناس، من رموز “الصباحات” الدمشقية عموما، “الياسمين، القهوة”، إلا أنها هنا تُسرح شعر القهوة البخاري، وتولم الياسمين ندى يانع القلب، قبل أن تضعهما في جملة شعرية واحدة، مستحضرة وبعفوية شديدة عند القارئ حتى لو كان في كهف، أجواء تلك الصباحات العذبة، دون أي شعور منه بالنفور من “الياسمين” و”القهوة”، المستهلكتين أدبيا حتى اهترأت قماشتهما المخملية، بل إنه سيتذوق “قهوة منكهة بالياسمين”، تلك النكهة الفريدة، التي ستقف لأجلها بحبور، الحليمات الذوقية الحسية عند القارئ، وتلك الكلمات القليلة التي قرأها، منحته فسحة ذوقية رفيعة.
يغلب على قصائد المجموعة الشعرية، الطابع الرومانسي-الحالم، كما يُخبر عنوانها “أستميحك عطرا”، لكن ذلك العاطفي-الرومانسي، سيتخذ مسارب مختلفة، تُدركها الشاعرة بأنوثة شعريتها، وهي حالة خاصة تختلف من شاعرة لأخرى، ويمكن القول هنا مجازا، من أنثى لأنثى، فكل تلك الأنوثة التي تصدر عن قصائد المجموعة، التي يكاد النسيم يجرح خصرها، لرهافتها، تستنفر حواس الحالة العاطفية برمتها، فالكلام هنا صار صورا متحركة، تهدل أرواح اللون منها، كهديل اليمام على أيك الغروب، تقول في “أو أعتق”: ماذا يعني أن تفرد ضفائري/ أن تتغلغل أصابعك في سدير شعري/ أو أن تلامس شفتاك جبيني/ قد أغدو بين إغماضةِ جفن وقهرة صحو/ امرأة من نعاس/ من عنب طازج من نبيذ/ لربما اغدو كمشة زبيب/ أو أعتق/ أجبني..ماذا يعني كلما لامستني تسكر”، هنا تتكلم اللغة الأنثى، لا اللغة التعبيرية، والحالة الشعرية الدقيقة هنا، والتي تجعل من الواقع خيالا، ومن الخيال واقعا، أو ما يسمى بـ: “السحرية الشعرية”، تكاد تتلاشى لشفافية حضورها أو لفرط حضوره، و”السحرية الشعرية” هي تقنية من التقنيات الحساسة في الشعر، والتي قد تهدم الحالة الدرامية الشعرية، القائمة في “أو أعتق”، أو في ما تنسحب عليه صفات هذه التقنية في قصيدة النثر، في حال غاب “ديالوغ” العتاب الصاخب، من كلام عالية حدة مراميه، وما يشي به، لا يُصرح عنه بل يتوارى في المعنى، من امرأة يطير كلامها بأجنحة مثقلة بأوجاع الروح والجسد، في وجه رجل، لم يزل خياله مهوسا في التفوق الذكوري، تحت وهم فكرته عن كونه من أفعال الحب.
نختم بـ “نزوة”، تقول فيها الشاعرة نجوى هدبا “ممزقة كأوراق كتاب/ خريفيّ الهوى/ مليء بأسرار النساء وغابات الرجولة/ هل يُشجيك شحوب الناي؟/ أنا يوجعني صوت الكمنجات/ أيبقيك كوب الخمر دافئا؟/ أنا أنتشي بمرور ذكرك في المرآة/ لحظة ابتسام.
تمّام علي بركات