دراساتصحيفة البعث

أيحين دور الضفة الشرقية بعد الغربية ؟

ترجمة وإعداد: علاء العطار

أيّما كانت الحصة التي بدأت “إسرائيل” بضمّها من الضفة الغربية في تموز الجاري، فإنها ستضم ما تبقى منها في النهاية، فهل ستحول أنظارها بعد ذلك نحو الضفة الشرقية لنهر الأردن؟.

اعتزم المشروع الصهيوني منذ القرن التاسع عشر الاستيلاء على كل فلسطين إلى جانب منطقة شرق الأردن، إذ امتدت خريطة “إسرائيل” التي قُدمت إلى مؤتمر باريس للسلام في عام 1919 شمالاً إلى لبنان اليوم وتضمّنت مدينة صيدا، وفي الشمال الشرقي كل مرتفعات الجولان وسورية حتى دمشق، وفي الجنوب الشرقي كامل غور الأردن إلى جانب المنطقة التي تمتد إلى حدود عمَّان تقريباً.

كانت المياه منذ البداية جزءاً لا يتجزأ من الحسابات الصهيونية، لكن في التقسيم البريطاني والفرنسي ظلّت منابع نهر الأردن على جبل الشيخ التي يُغذّيها نهرا الحاصباني وبانياس ضمن الانتداب الفرنسي على سورية (التي قُسّمت فيما بعد إلى لبنان وسورية). وتتدفق المياه إلى بحيرة طبريا، حيث تغذي نهر الأردن قبل أن يصبّ في البحر الميت.

في الخمسينيات والستينيات كرّر الصهاينة محاولاتهم في تحويل مياه الجولان. وفي عدوانها عام 1967 على سورية ومصر احتلت “إسرائيل” ثلثي الجولان، فضمنت تدفق مياهه جنوباً إلى بحيرة طبريا بعد تشريد نحو 10.000 سوري مع آلاف الفلسطينيين. وهُدمت 100 قرية من قراهم، وأعطيت أراضيهم للمستوطنين الذين يعيشون الآن في المرتفعات، وأحال جنود جيش الاحتلال مدينة القنيطرة بأكملها إلى أنقاض.

يستهلك الكيان الصهيوني نحو 60% من احتياجاته من المياه العذبة من بحيرة طبريا والضفة الغربية، وتُضخ مياه طبريا جنوباً لتغذي مدينة النقب، فيما يُستنزف 80% من المياه الجوفية في الضفة الغربية (سقي مروجهم وملء أحواض مسابحهم). بالمقارنة سُمح للفلسطينيين كمية من المياه بالكاد تكفي للاستخدام المنزلي، وعليهم أن يتحملوا القطع المتكرر للمياه، ومُنِعوا من حفر آبار جديدة منذ عام 1967 بالرغم من تزايد عدد السكان.

مع احتضار البحر الميت وجفاف بحيرة طبريا، التي وصلت في عام 2018 إلى أدنى مستوى لها منذ قرن، زاد اعتماد “إسرائيل” على المياه المحلاة. وفي عام 2018، في محاولة لإحياء بحيرة طبريا، وافقت حكومة الاحتلال على خطة لإعادة ملئها بالمياه المحلاة. لكن الجفاف الذي حدث في عام 2018 أجبرها على تخفيض كمية المياه التي تضخها من بحيرة طبريا من 400 مليون متر مكعب إلى 30-40 مليوناً. ومع ازدياد عدد السكان وتناقص إمدادات المياه العذبة، ستكون السيطرة على ضفتي نهر الأردن عنصراً حاسماً في التخطيط الصهيوني حالما تكتمل المرحلة الأخيرة من التوسع– أي ضم الضفة الغربية.

ثنائية كاذبة

التصق تيار الصهاينة، الذي يقوده حاييم وايزمان وديفيد بن غوريون، بمخططات بريطانيا الإمبريالية، وتعهدوا بأن يبقوا مخلصين للمصالح البريطانية في الشرق الأوسط، فكوفئوا بمناصب عليا في الإدارة المدنية (مثل ضبط “الهجرة” ومنصب المحامي العام)، إلى جانب حماية الجيش والشرطة بغية شرائهم الأراضي واستيطانها، وإخراج المزارعين الفلسطينيين الذي أعقب ذلك.

أُنشئ في تاريخ الحركة الصهيونية تفرع ثنائي كاذب بين تيار “العمليون” وتيار “السياسيون” التعديليّ الذي أسّسه زئيف جابوتنسكي. لم يبال جابوتنسكي بحقوق الفلسطينيين واحتياجاتهم وتطلعاتهم، لكنه كان صريحاً بشأن نواياه، إذ لا تمتد فلسطين التي نوى احتلالها بالكامل من البحر إلى نهر الأردن فحسب، بل إلى الضفة الأخرى من النهر.

عرف جابوتنسكي أن العرب في فلسطين سيقاومون الاحتلال، لذا عزم على بناء “جدار حديدي” من القوة العسكرية للتغلب عليهم. وقال: حالما نهزمهم ونجبرهم على الإصغاء لصوت العقل، يمكن إحلال السلام بين الشعبين.

قدّم “العمليون” صورة مختلفة تماماً، وأخذوا يشتمون التعديليين الفاشيين الذين يسيرون على نهج جابوتنسكي، وكانوا يدّعون أنهم اشتراكيون، لذا أعلنوا أنهم لا يضمرون شراً للعرب، بصرف النظر عن حقيقة أن الكيبوتسات [وتعني مستوطنة زراعية وعسكرية] والموشافات [شكل آخر من أشكال الاستيطان الصهيوني] والهستدروت [وهو الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية] كان كل من فيها يهوداً. وزعموا أن كل ما أرادوه هو زراعة الأرض لتعود بالنفع على الجميع، ويعيشون بسلام مع جيرانهم. كانوا سعداء بالمشاركة، متناسين أن فلسطين ليست ملكهم أصلاً ليشاركوها، وعندما اقتُرح التقسيم للمرة الأولى في عام 1937، قبلوه ووافقوا عليه مرة أخرى في عام 1947.

روت مذكرات شخصياتهم البارزة القصة الحقيقية وراء نفاقهم، وكشفوا حينها عن نواياهم الحقيقية بالاستيلاء على الأرض والتخلّص من أصحابها. وعرف “العمليون” والتعديليون أن عليهم بناء “جدار حديدي” في وجه العرب. وكانت “إسرائيل” في خريطتهم تضمّ الضفة الأخرى من نهر الأردن. لم تكن الاختلافات بينهم وبين التعديليين أكثر من اقتتال على السلطة، إذ اختلفت تكتيكاتهم لكن هدفهم الاستراتيجي النهائي واحد، أي الاستيلاء على كامل فلسطين كما هو محدّد في خريطة عام 1919.

وفور وصولهم إلى مبتغاهم، رموا خلفهم خطة التقسيم. لم يكن لدى القيادة الصهيونية أي نية للالتزام بقرارات الأمم المتحدة أو القانون الدولي، إذ لا يمكنهم الالتزام إن أرادوا إنشاء “دولة يهودية”. أوضح بن غوريون ذلك بقوله إن الحرب ستعطي الصهاينة ما يريدون، أي ستعطيهم كل فلسطين، ليس فقط 54% المخصّصة في خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة، ولربما كانوا لينجحوا لولا التدخل الدولي في عام 1948، لم يكن الصهاينة ليقبلوا خطة التقسيم إلا لأنهم لم يتمكنوا في هذه المرحلة من المضي أبعد منها.

وبعد أن احتلت “إسرائيل” 78% من فلسطين، قُبلت كعضو في الأمم المتحدة بشرط أن تمتثل لقرار الجمعية العامة رقم 194 لعام 1948، الذي يمنح الفلسطينيين الذين أخرجتهم بالقوة حق العودة أو التعويض. وبما أنها لم تمتثل لهذا القرار ولم تكن تنوي ذلك أصلاً، فهناك سبب قانوني واضح يدعو لاعتبار عضويتها في هذه المنظمة الدولية لاغية وباطلة. والسمة الأخرى التي تتصف بها عضوية “إسرائيل” هي أنها لا تزال دولة من دون حدود معلنة. لا يرجع ذلك إلى حالة الحرب الدائرة فقط، وإنما لأنها لا تريد إعلان حدودها. وهذا الوضع المخالف للعادة متعمّد، إذ يسمح “لإسرائيل” بمواصلة مسيرتها التوسعية نحو حدود ما تسميه “الوطن القومي” الذي ورد في خريطة عام 1919.

إن ضمّ الضفة الغربية جعلها تتقدم خطوة أخرى في هذا الاتجاه. ويجدر بنا ذكر أن نتنياهو تعديلي، وكان والده سكرتير جابوتنسكي ويكره العرب. ومنذ انتخاب مناحيم بيغن في عام 1977، ظل التعديليون في الحكومة لأكثر من أربعين عاماً، ودخل إليهم متطرفون أشد تطرفاً (نفتالي بينِت وأيليت شكِد) وهم الآن يحتلون مركز الصدارة، ويكادون من شدة تطرفهم أن يجعلوا نتنياهو يبدو معتدلاً.

لا يجوز لأحد أن يشك أن نتنياهو مخلص لجذوره التعديلية، بصرف النظر عن أكاذيبه وخداعه، ففي كتابه الذي صدر عام 1993، عنوانه “مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم”، أكد نتنياهو “حق الشعب اليهودي” بكامل “أرض إسرائيل”، وأن “أرض إسرائيل لا تحمل معنى دولة إسرائيل نفسه”.

الأرض موجودة هناك “لليهود” فقط، ولا يجوز أن يتقاسموها مع أي أحد، وهذا مبدأ اتبعه الصهاينة منذ بداية استعمارهم، وهو الالتزام الذي قطعه نتنياهو وأضاف إليه بسنه قانون الدولة القومية لعام 2018، وبتصريحه أن فلسطينيي الضفة الغربية لن يكونوا مواطنين بل “رعايا”، وهو مصطلح يطبق عادة على رعايا ملك أو إمبراطور.

تعهد نتنياهو في أيلول الماضي بضم الضفة الغربية إن انتخب مرة أخرى. وهو الآن يحكم “إسرائيل” بموجب ترتيب لتقاسم السلطة مع بيني غانتس، الذي كان رئيس أركان جيش الاحتلال خلال هجوم عام 2014 على غزة الذي أسفر عن استشهاد 2200 شخص، من بينهم 1492 مدنياً (551 منهم أطفال). كما قصف جيش الاحتلال ملاجئ الأونروا، ما أسفر عن استشهاد مدنيين كانوا فيها ومدنيين في الشوارع وداخل منازلهم. وكان ضم الضفة الغربية جزءاً من صفقة الوحدة التي أبرمت بين مجرمي الحرب هذين.

لن يُعرف مقدار ما سيتمّ ضمه في المرحلة الأولى إلى أن يصدر نتنياهو المرسوم الأول، لكنه سيشمل بالتأكيد امتداداً بطول مئة كيلومتر في غور الأردن. سيندلع العنف بالتأكيد ليلاً نهاراً، وسيستخدم الصهاينة ذريعة “المقاومة”، كما يفعلون دائماً، للاستيلاء على مزيد من الأراضي ولإحكام قبضتهم عليها. وستندلع انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، ولن يتطلّب الأمر سوى بضعة هجمات عبر نهر الأردن لتتذرع “إسرائيل” بذريعة “أمنها” (حماية 11.000 مستوطن غير قانوني في غور الأردن) لكي تعبر المياه وتثبت أقدامها في الضفة الشرقية. سيستحوذ الكيان الصهيوني على قناة الملك عبد الله في الضفة الشرقية فوراً، التي تؤمن تسعين مليون متر مكعب سنوياً من المياه العذبة لسكان عمان.

وبناء على كل الممارسات الصهيونية السابقة، سيتبع ذلك توسع منتظم وسريع في الأراضي الأردنية، ضارباً بعرض الحائط اعتراضات “المجتمع الدولي” العقيمة. ما الصهيونية إلا إيديولوجية انتهازية، ورأيناها سابقاً قد خلقت فرصاً حيث لم تسنح لها فرص بالمصادفة لتستولي على مزيد من أراضي فلسطين. وكالعادة، سيتفاعل “المجتمع الدولي” بشكل سلبي، ويرجح ألا يفعل ما يذكر على أرض الواقع، ناهيك عن ذكر أن الولايات المتحدة منحت إسرائيل حرية التصرف كاملة.

الضفة الشرقية لنهر الأردن هي جزء من خريطة عام 1919، مثل مرتفعات الجولان أو جنوب لبنان، حيث أخرجت مقاومة حزب الله الصهاينة بالقوة، ومن شبه المؤكد أن تعبر إسرائيل نهر الأردن ذات يوم.