ثقافةصحيفة البعث

“المتجهم” مجموعة قصصية للأردني كمال ميرزا

لا يحسم الصحفي والكاتب الأردني كمال ميرزا في مجموعة القصص القصيرة التي صدرت في كتاب عن دار “ناشرون موزعون” طبيعة تلك القصص، هل هي ساخرة؟ ربما، ويمكن اعتبار عنوان المجموعة القصصية موقفاً بحد ذاته، فالعنوان هنا يدل على موقف الكاتب حيال العديد من القضايا الاجتماعية ومساراتها المخالفة لكل منطق وعقل وحكمة، “ميزة المجتمع الإنساني كما يُفترض”، هذا ما سيعرفه القارئ من القصص وموضوعاتها التي وردت في المجموعة القصصية “المتجهم”، بأسلوب لغوي متقن، وجمل قصيرة وانسيابية، وحوارات رشيقة وبليغة، أيضاً البناء المحكم للقص وإن اختلفت أساليبه وتنوعت من قصة لأخرى وفق طبيعة القصة وفكرتها، والحبكة السردية وما تومض به من دهشة وبراعة، ووحدة التكثيف والانسجام اللغوي، وحضور المفارقة والتناص مع الترميز الساخر، والتنويع في أسلوب السرد وتقنياته، والحرص على ضمان وجود الجانب المتعوي لفعل القراءة، دون أن تغيبه السخرية السوداء بشروطها الصارمة، وطرق من زوايا مختلفة للموضوعات الاجتماعية الإشكالية، سواء في مجتمعه المحلي أو محيطه الجغرافي والإقليمي، والتعامل مع القارئ كشريك في الفعل، تاركاً له أن يملأ الفراغات البيضاء، وأن يتفاعل مع القصة بطريقته، بغض النظر عن مستواه الثقافي، وهذا عائد لفهم الكاتب لطبيعة فن القصة القصيرة، وما ينطوي عليه هذا النوع الأدبي من خصائص وميزات تجعله الأخطر بين غيره من الأجناس الأدبية.

الكلاسيكية ليس بمعناها الأسلوبي، بل في موضوعاتها الحساسة وكيفية طرحها لتلك الموضوعات، تلك التي “عفّ” عنها الكثير من “كُتّاب” القصة القصيرة- الفن الشاق، لصالح مفاهيم وموضوعات جديدة تتخلى في حيز مهم منها عن إشغال القصة القصيرة، منزاحة نحو سرديات أدبية شخصية لم يبد عنها حتى اللحظة أنها أنتجت نسقاً كتابياً جديداً، بقدر ما هي شذرات منوعة ومُختلف حتى على تسميتها، هذه الكلاسيكية بمعناها النوعي، هوية الجنس الأدبي، طبيعته، خصوصيته، فرادته، قدرته في الوصول للقارئ دون أن يهمل ما يقرأ من السطر الأول، هي السمة العامة التي تميز مجموعة “المتجهم”، ففي قصة “أديسون” التي تحمل المفارقة الساخرة من العنوان بداية، تحكي عن الشخصية الغبية جداً، والتي يؤثر غباؤها على من حولها، خصوصاً في المدرسة، إنها قصة أديسون العالم الشهير ذاتها من جهة الطرح العام، لكن أديسون ها هنا لن تكون العبقرية الفذة من صفاته في الخواتيم، فعبقريته من نوع موجود بين ظهرانينا، تركه المدرسة، والبدء بالعمل، والانتقال من مستوى طبقي إلى آخر مع تحقيقه النجاح المادي، وصوله للثراء والوجاهة الاجتماعية، وحتى الاستقرار العائلي مع إنجازات عملية لمشاريع عائدة له، تُشغل أعداداً كبيرة من العمال، في الوقت الذي كان فيه أقرانه إما على مقاعد الدراسة يتابعون تحصيلهم العلمي، أو يهاجرون ويتغربون طلباً للرزق بعلمهم دون أن يستطيعوا تأمين أدنى متطلبات الزواج في أدنى تقدير، وفي هذه القصة بالذات تتجلى البراعة التي يتعامل فيها الكاتب مع الثيمة الشهيرة، مراعياً شروط القارئ وطبيعته الثقافية ومرجعيته الفكرية، فالقصة الشهيرة لمخترع المصباح الكهربائي، سيقوم ميرزا بالبناء على أساسها، ولكن من وجهة نظر مختلفة، متعلقة ببيئة الكاتب وطبيعتها، أيضاً في محيطه الجغرافي والإقليمي، فأديسون الخاص بنا يختلف عن أديسون الذي نعرفه، وهنا ليست السخرية المبطنة هي ما يحكم فقط سياق القصة التي تبدو وكأنها تسرد شأناً شخصياً، لكنها في الواقع تجلد بقوة الواقع الاجتماعي السائد، وطبيعة الحياة المتنافرة والمتناقضة التي لا تفضي مقدماتها إلى نتائج منسجمة معها، بل إن العكس هو الحاصل.

يوظف الكاتب العديد من المفردات المحلية لبيئته في نصوصه، وهنا تطل الأصالة برأسها وفق عدة مستويات، سواء كان في انتقاء الموضوعات العامة، تلك التي تطفو “بلاويها” على السطح، وبقوة في الواقع العربي عموماً، أو في معالجتها أدبياً بأسلوب لماح وبسيط، مع لعب تشويقي في التعامل مع تطور الأحداث والشخصيات، وهنا تجيء قصة “رضا” لتكون من القصص الفارقة في المجموعة، رضا الطفل المحتاج للرعاية الأبوية فقط ليكون كغيره من الأطفال، حاله في تراجع مستمر، وهذا التدهور الصحي سيعزوه الأب بعد إلحاح شديد من الأم، لكونه عقاباً إلهياً، وعوضاً عن الذهاب للطبيب لمعرفة الداء، يأتي الأب للطفل بشيخ القرية، ثم بمشعوذ يحاول فك العمل المعمول له بمجموعة من المساحيق والأعشاب، لكنها لم تنفع بل فاقمت الحال، لينهال بعدها عليه بالعصا، يكسر عظامه من الضرب بحجة أن جنياً “يركبه”، لكن الحال لم يتغير، رضا صارت حالته أسوأ، وعندما اقتنع أخيراً بأخذه إلى الطبيب، لم يرض عن التشخيص الذي سمعه، مُعملاً تفكيره فيما سيكون عليه حال أهل البلد من قصة ابنه الذي صار برأيه مجنوناً، وهذا سيكون مصدر عار له ولأسرته، فيقرر أن الأطباء يكذبون، يشق الوصفة الطبية، ويعود لسابق عهده بالتعامل العنيف معه.

القصة لا تحكي حكاية “رضا” على أنها حالة خاصة، بل هي جردة عامة لطبيعة المجتمع، وعلائقه المعقدة، وأسلوب التفكير “القطيعي” الذي يسوده، احتقار العلم، والاستعاضة عنه بالجهل تارة، والشعوذة تارة أخرى، التعامل مع الأمراض النفسية على أنها من مسببات العار، إنها حالات لم تزل موجودة وبقوة في المجتمعات العربية، خصوصاً المجتمعات الريفية التي لم تزل محكومة بنسق ثقافي رجعي، عفا عليه الزمان في العالم عموماً، لكنه لم يزل السيد الأكثر تقديراً وتبجيلاً وخوفاً في نسيج المجتمع العربي عموماً.

أهمية كمال ميرزا كقاص تأتي من كونه لا يتعامى عن الواقع، بل يجعله منهله، مُعملاً فيه مبضعه التشريحي بذكاء في الطرح والمعالجة، وبلغة رشيقة تحقق المتعة حتى وهي تغوص في وحول هذا الواقع الذي لم تتغيّر مفرداته بعد.

تمّام علي بركات