مجلة البعث الأسبوعية

الشعر الحلبي.. حداثة إبداعية متعثّرة!!  

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

تمر اللحظة الشعرية بتحولات متنوعة منها النفسية والاجتماعية والزمانية والمكانية والبيئية، كما تمر بمتغيرات متعلقة بثقافة الذات الشاعرة ومقاماتها الروحية ومخيلتها وفلسفتها ورؤاها وإمكانياتها الإبداعية الهادفة إلى اختزال العالم والكون في إشارة واحدة، لعلها تحتجز الأبدية إلى الأبد.

وضمن احتمالات هذه اللحظة، يتجول الشعر السوري عموماً، والحلبي خصوصاً؛ والمقصود بالحلبي هو النتاج الشعري الذي كتبه شعراء حلبيون، أو منتمون لحلب لأسباب عديدة سواء بالولادة أو الإقامة أو الهجرة، ما يشكّل بيئة شعرية حلبية خاصة، لكنها، بلا شك، عربية وإنسانية تحاول تجذير الأثر الجمالي المختلف العابر للأزمنة والأمكنة، رغم ظروف الإرهاب والظلام والأفكار السوداء والتشاؤمية، وهذا ما يثبته حاضرها الذي يتفاعل شهرياً مع 60 فعالية ثقافية وفنية على الأقل، حتى أثناء الأزمات والحرب الإرهابية الكونية، وهذا ما أصرت على مواصلته الجهات الثقافية والفنية الرسمية والخاصة، كما أصرّ عليه “الشعب” الحلبي الذي يعالج آلامه وجراحه وهمومه وآماله بالشعر والقصيدة الغنائية.

حول الحركة الشعرية في حلب ومتغيراتها المتزامنة مع المتغيرات اليومية المعاصرة، تساءلت “البعث الأسبوعية”: هل توقف الشعر الحلبي عند قصيدة المتنبي وأبو فراس الحمداني؟ ما حال القصيدة بأشكالها التقليدية والكلاسيكية والحديثة؟ وما دورها الوطني والعربي قبل الأزمة وأثناءها وبعدها؟ وهل نالت حقها النقدي؟

 

ملامح وطنية

أجابنا الشاعر محمد حجازي مدير دار الكتب الوطنية بحلب مؤكداً: لم تتوقف القصيدة عند المتنبي، بل أخذت أشكالاً متنوعة باتجاه الحداثة، استفادت من معطيات كثيرة كعلم النفس والفلسفة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت الكشف عن شخصيات شعرية مغمورة ربما. لكن، ما زالت القصيدة العمودية تتصدر الواجهة لأنها إرث، وأصبح التجديد فاعلاً ضمن القصيدة التي انزاحت إلى ملامح الحداثة، ولربما قرأنا قصيدة كلاسيكية بجماليات مبهرة أكثر من شعر الحداثة، على مستوى المعنى والدلالة والنسق المتماسك والفنيات الأخرى، ومنها الصورة الشعرية، رغم أن صور الحداثة التقليدية ما زالت موجودة، وما زال لها رواد ومريدون ومدافعون.

ورأى حجازي أن القضايا الوطنية تتربع على عرش الموضوع الشعري خصوصاً في ظل الحرب على سورية، وكل قصيدة حلبية بملامح وطنية، حرضت وثبّتت الحالة الوطنية الشعرية، إضافة لهوامش من الوجوديات والغزل والروحانيات، لكن الثيمة الوطنية هي الغالبة لأن أهل حلب تألموا كثيراً.

وعن الحركة النقدية، قال: النقد والشعر صنوان لا يفترقان، ولا يتطور النقد إلاّ بتطور الشعر، ولا يتطور الشعر إلاّ بتطور النقد، لكنّ القصيدة الحلبية لم تنل حقها نقدياً لأسباب متعددة، منها تخبّط المدارس النقدية، كما أننا نفتقد لعمود نقدي يتناول القصيدة بشكل عام، ويقرأ عواملها وثيماتها النفسية والاجتماعية والفنية، ونحتاج للناقد الشمولي المتميز، رغم وجود زمرة من النقاد تسعى إلى التجديد.

وتابع: نتمنى أن ينال شعراء حلب اهتماماً أوفر في الساحة الأدبية، وعسى للشعر – في الأيام القادمة – أن يجبّ عن الشاعر الجوع والفقر ولو بشكل بسيط، وهذا جزء من تقديس الوعي والثقافة والفكر والعلم والأدب، لنقف للأديب باحترام في كل الأمكنة.

 

ما قبل وما بعد تحرير حلب

بدوره، أجاب الشاعر عدنان الدربي: الشعر ثلاثة أشكال: عمودي وتفعيلة وحديث، والحديث ليس له خلود، فهذا نثر وهذا شعر كما يقول جبران خليل جبران.. كتبت عن حلب وبطولتها كما كتبت قصيدة ضد القصيدة غير المنظومة والموزونة والتفعيلة.

ورأى أن أهل حلب يتمتعون بأذن موسيقية، ويحبون الجمال والتجديد، وأن الحركة الثقافية عموماً، والأمسيات والأصبوحات الشعرية خصوصاً لم تتوقف في حلب رغم الحرب، بل ازداد الاهتمام بالشعر وهذا ما يجب أن يلفت إليه المجهر النقدي بين ما “قبل”، وما “بعد” تحرير حلب.

وأضاف: تحتاج حلب إلى صحافة ومجلات ورقية وإلكترونية تضاف لصحيفة “الجماهير” ومجلة مديرية الثقافة بحلب، هذه المديرية التي تتابع دورها مع الجهات الأخرى في تنشيط الحركة الثقافية في المدينة المزدحمة بـ 25 أمسية شهرياً على الأقل.

 

خشية من الانحطاط الشامل

الشاعر الباحث حسن عاصي الشيخ: لا يمكن التوقف عند المتنبي وأبو ريشة، ولا بد من وضع كل شاعر في سياقه الزمني، ولذلك، أتساءل: هل استطاع الشعر الكلاسيكي الحلبي الارتقاء لإبداع المتنبي وعمر أبي ريشة؟

وأردف: الشعر مكرور ومليء بالتقليد ويفتقد إلى الإبداع، وطبعاً، هناك بعض الإشراقات لا سيما بين الجيل الشعري الشاب، وحلب مدينة الشعر حقيقة، وشعراؤها الشباب يكتبون القصيدة بأشكالها المتنوعة، لا سيما قصيدة النثر بجمالياتها المتجددة، وهذا ما يمثله القليل، لأن الغالبية الغالبة في حالة انحطاط شامل، لماذا؟ لأن الأدب بنية فوقية، لكنها منهارة للأسف، لأسباب مختلفة منها الحالة الاجتماعية والاقتصادية.. رغم ذلك، الملفت، في حالة حلب، الصالونات الأدبية والأندية الخاصة المرادفة لأنشطة المؤسسات والجهات الرسمية، مثل صالون رياض الأدبي، وصالون أديل برشيني، والمقهى الثقافي الأسبوعي.

 

الشعر حي ما دامت الحياة

“الشعر نشيد الحياة المقدس، يغنِّي لها، ويقودها، ويبعثها، ويجعل الدم يتدفق في عروقها”، بهذه الكلمات بدأ الدكتور أحمد زياد محبك، أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة حلب، إجابته، وتابع: الشعر ليس مرآة عاكسة للحياة، بل هو خلق للحياة، وإحياء لها، والشعر لا يتوقف عند شاعر، وعصر، ونوع أو ظاهرة، الشعر حي ما دامت الحياة، بل هو في حركة مستمرة، وتطور دائم، ولو لم تتطور الحياة.

وأردف: الشعر في أي عصر لا يصنعه شاعر فرد، بل يصنعه سرب من الشعراء، قد يكون فيهم من هو أشهر أو أكثر تطوراً أو أكثر تأثيراً، ولكنه لا يمكن أن يلغي الشعر الذي قبله، أو في عصره أو بعد عصره، لكن قد يضيف إليه، لأن التميز والتفرد والاختلاف والإضافة ظواهر مطلوبة.

واسترسل: التفاوت موجود، والاختلاف موجود، والتنوع موجود ومطلوب، وكذلك التعدد، وليس بوسع شاعر أن يلغي شاعراً.

وأكد: قد تجف الأنهر، وتنضب الينابيع، قد تشتعل الحروب، وتدمر المدن، لكن الشعر لا ينضب ولا يجف ولا ينقطع، لأنه فيض من الشعور، وغيث من العقول، ونبض من القلب، وكيف للشعر أن يجف، يقول أبو تمام:

ولَوْ كَانَ يَفنَى الشعْرُ أفناهُ ما قَرَتْ

ولكنَّهُ صَوْبُ العُقُولِ إِذا انجَلَتْ

حِياضُكَ مِنهُ في العُصُور الذَّواهِبِ

سَحَائِبُ مِنْهُ أُعْقِبَتْ بِسَحَائِب

وأكمل د. محبك: تألق الشاعر عمر أبو ريشة في الثلاثينيات من القرن العشرين، واستمر في تألقه إلى حين وفاته في آخر القرن العشرين، وما يزال لشعره حضوره المتميز، ويمكننا أن نذكر في النصف الثاني من القرن العشرين شعراء كثيرين في حلب، كان لهم حضور، وفاعلية، وتأثير، وكان لهم دور في تطوير الشعر، وكان لهم صوتهم المتميز، ونذكر منهم جلال قضيماتي، شاعر الروح الصوفية المتسامية، ومصطفى النجار شاعر التفاؤل والمعاناة، ومحمود علي السعيد، شاعر فلسطين والوطن، وسعيد رجو شاعر العذاب الشهي، وزكريا مصاص شاعر الجمال السامي، وعصام ترشحاني شاعر فلسطين وشاعر القصيدة الحداثية، ولا بد من ذكر علي الناصر شاعر قصيدة النثر وأورخان ميسر الشاعر السريالي؛ ويمكن أن نذكر كوكبة من الشعراء، منهم عمر أبو قوس وعبد الله يوركي حلاق، وأحمد دوغان ومحمد الزينو السلوم، وعبد الرزاق معروف وفواز حجو ومحمد كمال ومحمد حجازي، وغيرهم كثير من الشعراء. ولا ننسى شاعرات مبدعات حققن حضوراً فنياً متميّزاً منهن غالية خوجة وبهيجة مصري إدلبي والدكتورة ميادة مكانسي وأديل برشيني ورولا عبد الحميد وهزار طباخ وغيرهن.

وأضاف: نحن في هذه العجالة لسنا في صدد صنع معجم للشعراء، إنما نشير إلى حركة شعرية في حلب تتنوع الأصوات فيها وتختلف، وكل شاعر له صوته وإيقاعه ونبرته ونغمه، ومن واجب الناقد الحق أن يعطي كل شاعر حقه، وأن يدرسه من داخل شعره، وأن يقر له بما في شعره من خصوصية، وألا يحكِّم الناقد ذوقه الخاص، وألا يتعصب لنوع من الشعر، فالشعر أنواع ومذاهب واتجاهات، منه الواضح المباشر، والغامض، والرمزي، ومنه شعر البحر وشعر التفعيلة وقصيدة النثر، والجيد هو الجيد، في أي نوع كان، ولكل نوع قِيَمُه ومعاييره ومفاهيمه، وهي ليست بالمقاييس المنطقية ولا المعايير العقلية، هي قيم ومفاهيم ذوقية جمالية تتغير وتتطور، والشاعر الحق هو الذي يخرج عن المفاهيم التي رسخت وجمدت، ويخلق ما هو جديد، ويفاجئ عصره بما هو مختلف، وهنا يبرز دور الناقد الحق، وهو أن يستطيع التعامل مع هذا الشاعر الجديد، وألا يجابهه بثقافته القديمة، وقد يكون من حق القارئ العادي أن يعجب بشاعر أو شاعرين، وأن يفضلهما على الآخرين، أو يعجب بنوع من الشعر أو اتجاه، ولكن ليس هذا من حق الناقد الحق.