مجلة البعث الأسبوعية

صناعة المشهدية في الحرب على سورية

“البعث الأسبوعية” د. نهلة عيسى

المتتبع الجاد لصور معظم الفضائيات العربية والغربية، على اختلاف مرجعياتها الوطنية والسياسية والاقتصادية، سوف يجد أن الكم الهائل من الصور التي بثت عن سورية منذ بداية الأحداث، في آذار 2011، تتناقض ليس فقط مع الواقع، بل أيضاً مع بعضها البعض.

وتجلى ذلك في البرامج الحوارية والبرامج الدينية والبرامج الإخبارية، والتي سادتها اللاعقلانية والغوغائية والذاتية، وبيع الرموز الوطنية والتاريخية والدينية، وتحويلها إلى سلعة تبيع سلعة، في محاكاة شبه كاملة لمثيلاتها في الفضائيات الغربية.

كما سيلحظ، التطور الوهمي الخادع لمسار الأحداث، والتوجيه المبرمج، أو القولبة التي فرضتها وسائل الإعلام العربية والأجنبية على عقول المشاهدين، فيما يتعلق بالموقف المأمول منهم تجاه ما سمي بـ “ربيع سورية”، في إطار من المغالاة الإعلامية والضجيج البصري غير المسبوق عالمياً، بحيث تحول الموت في سورية من طقس يستدعي كل مشاعر الحزن والجزع الشخصي والوطني، إلى مصاب جاهز “تيك واي” في متناول مشاهدي العالم، دون أن يكون لدى معظمهم أدنى فكرة عما يجري، ولا عن دوافعه, ولا المتورطين فيه.

وقد حولت وسائل الإعلام الحدث السوري إلى حكاية شعبية بالمعنى التخيلي للكلمة: “بلد صغير جميل، وشعب طيب مسالم مقهور خرج للدفاع عن حريته وكرامته في وجه طاغية لا يرحم!!”. وهكذا، بدت سورية وكأنها سندريلا التي تقاسي من زوجة أب شريرة، وبدا الشعب السوري وكأنه بطل من أبطال أفلام “وولت ديزني”! وكل ذلك في إطار من العولمة الانفعالية، واللهاث البصري التنافسي والمجاراة الإعلامية، وتجارة الأخبار، بغض النظر عن أي مصداقية، أو ميثاق شرف إعلامي؛ بل بلغت المنافسة المسعورة على النبأ “العاجل” المثير من سورية حداً أصبحت فيه الزلات والأخطاء، والفبركات الإعلامية “غير المعدة جيداً” يومية، دون أي حياء، أو خجل، أو إحساس بالمسؤولية الأخلاقية. ومع طول زمن الأزمة، تضاعفت المزايدات بإلحاح عجيب، وظهرت حالة أقرب للسعار الإعلامي، وصلت فيها المحاكاة المخزية بين وسائل الإعلام حدها الأقصى، بحيث تحول الشأن السوري إلى خبر شبه وحيد، ومهيمن، على معظم الشاشات العربية والأجنبية، وتحول مدّعو المعرفة به إلى نجوم بأهمية نجوم هوليوود.

.. هكذا تلاشى الواقع، وتلاشت الحقائق، من صور التلفزة والإنترنت، وحل محلها واقع فائق الواقعية، مصنوعٌ وفقاً لشروط الفرجة التلفزيونية، وأصبح مثل كرة الثلج يتوالد ذاتياً، ويتدحرج بعيداً عن الحقيقة الموضوعية، قريباً من الحقيقة التلفزيونية، وفيه كل عوامل الإثارة والتهييج الذاتي، عبر مسار حلزوني يثير الدوار، والحماس، والانفعال إلى درجة الغثيان، كما يثير الحس الديني الساذج لدى البشر (أو الـ تيلي إنجيلية “الإنجيلية التلفزيونية”) الحلم بالتغيير، ما دامت تبعات هذا التغيير لن تمس استقرار حياتهم هم، وان مست حياة ملايين غيرهم!!

فالصورة “سلطانة”، ودحضها ونفيها صعب إن لم يكن مستحيلاً، ووفرتها تجسيد فعلي لغياب المعنى، مع الإيهام باستيفاء المعنى؛ ولذلك فآليات التضليل لم تعد تعتمد على الحذف والقص والاجتزاء – كأدوات للتأثير – بل أصبحت تعتمد على الوفرة والغزارة والتراكمية، بشكل يزيد عن حد الكفاية، ويبلغ درجة كبيرة من الإشباع تصل حد التخويف من المعرفة، والشطط في معالجة الأحداث بعيداً عن الجوهر. وقد أظهرت الحرب على سورية تجاوزات الصورة بشكل غير مسبوق، بدايةً بالتزوير، أو اللجوء إلى الأرشيف، وادعاء آنيته، مروراً بزراعة الصور في سياقات بصرية لا تمت إلى أصل الصورة بصلة، ونهايةً باختلاق مشاهد بالكامل وتمثيلها، أو تصميمها باستخدام تقنيات الجرافيك، والاستعانة بهواة تصوير ومراسلين هواة لنقل والتقاط الأحداث والصور خلافاً للواقع، وادعاء تسجيلها لحظة وقوعها. والحقيقة أن سورية تعرضت لـ “تام تام” (جوقة طبول) كوني بصري شارك فيه كثيرون، وكان فيه ضرب من التواطؤ في صنع الأكاذيب، وهو تواطؤ لم يبدأ مع بداية الأحداث – كما قد يظن كثيرون – بل بدأ قبل ذلك بسنوات، عندما بدأت أموال الخليج تستغل نجاح وشعبية الدراما السورية، فسعت لإنشاء شركات إنتاج تلفزيوني، ومن ثم استقطاب الكتاب والمخرجين والممثلين السوريين لتفرض عليهم موضوعات بعينها، ونجوماً بالإسم تحولوا فيما بعد (عندما آن الأوان) إلى ثوار ودعاة حرية وفقاً للأجندة الخليجية.

 

موت الواقع وصعود الصورة

ساهمت الدراما السورية، عن قصد أو غير قصد، في تشكيل صورة ذهنية سلبية عن المجتمع السوري، مهدت الطريق، فيما بعد، لتصديق كل الأكاذيب التي بثتها وسائل الإعلام العربية والأجنبية عن الأحداث في سورية. فقد دأبت الدراما السورية في السنوات العشر الأخيرة قبل الحرب، فيما أسمته “دراما توثيقية”، على تصوير المجتمع السوري على انه مزيج من الفاسدين ومستغلي السلطة والقوادين والداعرات، وأظهرته كبؤرة للطغيان، البقاء فيه للأقوى والأكثر فساداً، ولا أمل لضعيف أو فقير أو شريف في حياة كريمة بين جنباته، وهذه أولى مراحل صناعة المشهدية التي شكلت طلعة الطيران الأولى في الحرب الإعلامية على سورية، تمهيداً للحرب الأشرس التي رافقت الأحداث، وطالت البشر والحجر والشجر.

ثاني المراحل تمثل في الأسلوب الذي قدمت فيه الأخبار عن سورية، والذي عمل وفق آلية درامية (دراما تورجيا) تحولت فيها الأحداث إلى ميلودراما تتلاحق فيها المفاجآت، وتتقلب الأجواء، ويتغير الممثلون، في خليط عجيب ومضلل من الأنواع الإعلامية المتداخلة، والتي تدور كلها حول نغمات محورية معينة: رئيس وجيش وعملاء يقتلون شعباً أعزلاً!؟ بحيث تم تغييب المعلومات الحقيقية والواقع الموضوعي عن الشاشة، وتمحور الاهتمام حول كيفية سرد الحكاية، خاصة وأن مقدمي الأخبار باتوا اقرب للمعلقين الرياضيين، دورهم ليس استجلاء الحدث وتفسيره وتبيانه، بل دفع المشاهدين للغرق في تعقيدات الصور، بزعم أنها تنقل التاريخ الإنساني وهو في طور حدوثه!!

ثالث المراحل تمثل في وهم النقل المباشر، أي المسارعة فور وقوع حدث ما، في مكان ما، إلى الاتصال بأي شخص في مكان الحدث، ليقول ما لديه، حتى لو كان كذباً أو اختلاقاً، أو صوراً مجتزأة من الواقع، لأن المهم ليس الحقيقة، بل وهم النقل من موقع الحدث وتأثيره الواقعي على المشاهدين، في تأكيد المصداقية بغض النظر عن الصدق؛ وبهذا الشكل، أصبح الانفعال هو الواقع، حتى لو كان لا علاقة له بأي واقع، ولذلك أصبحت وسائل الإعلام ترسل المراسلين وتجند الصحفيين في المناطق الساخنة، ليس لنقل الحقيقة، بل للإيهام بها، أو – بعبارة أدق – لإعادة إنتاج الأحداث عبر صور بعيدة ومهتزة ومشوشة وملتبسة، وفقاً لمصالح مرجعيات وسائل الإعلام وأجنداتها!

رابع المراحل هي اختلاق صورة الخبير والمحلل النبيل صاحب القضية والمعلومة، والذين حولتهم الفضائيات العربية والأجنبية – فيما يتعلق بالشأن السوري – إلى رسل، أو عرافين لا يأتيهم الباطل من أمامهم، أو خلفهم، تستشيرهم وسائل الإعلام، ويتابعهم المشاهدون، وهم يستعرضون خبراتهم في جو “هوليوودي” فيه كل الوسائط المساعدة (فيديو وول وغيره)، ليحتلوا في عقول البسطاء مكانة المفكرين المعاصرين، والفكر منهم براء، لأنهم – في واقع الحال – مجرد كلاب حراسة جدد على الحقيقة الواقعية لصالح الحقيقة الإعلامية، بحيث بات ما يجري في سورية هو حقيقة الـ 25 كادر في ثانية، أو أكذوبة 25 كادر في الثانية، وهي أكذوبة تقيم جسراً وهمياً بين الحدث، أو صورة الحدث، وبين عواطف المشاهدين؛ وهذا الجسر الوهمي، الذي يتمثل بالخبراء والمحللين، يخلق تأثيراً خادعاً عن الحدث، بعيداً عن ظروفه الموضوعية (مخيمات اللاجئين طوعاً، وعزمي بشارة وصفوت الزيات، وغيرهم، أمثلة واقعية حول الحقيقة الإعلامية)؛ وهذا ما يؤكد أن الأحداث المهمة لا تنتج صوراً في معظم الأحيان!

خامس مراحل صناعة المشهدية عن الشأن السوري هو التزييف والاحتيال وصناعة أبطال وهميين، ومجازر تقشعر لها الأبدان، على لسان شخصيات واقعية مأجورة لرواية حكاية محبوكة في سيناريو مؤثر، بعيداً عن أي احترام للحقيقة؛ و”أظافر أطفال درعا” التي لم نر صورة لها، رغم أنها كانت الحجة الرئيسية في اندلاع ما سمي بـ “الثورة السورية”، وأسطورة حمزة الخطيب، والكيماوي، ومئات القصص الإعلامية الأخرى على مدار أكثر من عشرة أعوام، دليل جلي على تسيّد المشهدية في صناعة الأخبار في الحرب على سورية!!

سادس المراحل هو ذلك التغييب شبه الكامل لمواقف وآراء الغالبية العظمى من الشعب السوري المدركة لحقيقة ما يجري على الأرض السورية، والرافضة لجميع التدخلات بالشأن السوري، والداعية إلى الحوار الوطني سبيلاً وحيداً للحل، وتصوير هذه الغالبية – في حال تم ذكرها – على أنها مجموعة من “الشبيحة”، أي شيطنتها، في مقابل الاحتفاء المبالغ به.. بل تسييد آراء قلة من الشعب السوري، وإظهارهم بحجم كمي أكبر بكثير من الواقع، والتعامل معهم كممثلين عن الشعب السوري، خلافاً لإرادة ورغبات الشعب، وخلافاً لحقيقة قناعاته في هؤلاء المفروضين عليه كممثلين عنه.

إن اللهاث خلف الحصول على نصر سريع لصالح مجموعات مسلحة سورية هجينة، تعمل وفقاً لمخططات عربية وإقليمية ودولية، أدخل وسائل الإعلام رحى التسابق على صناعة الأكاذيب والأساطير، بالشكل الذي يصعب حصره في هذه العجالة، كما أدخلها دائرة التجريم بتهم عديدة، لعل أفدحها تهمة المشاركة في سفك الدم السوري، وتعريض الأرض السورية للتقسيم والاحتلال؛ وهو أمر يضع تلك الوسائل، والعاملين فيها، تحت بند المساءلة القانونية والأخلاقية أمام المحاكم الدولية والوطنية، كما أدخل مهنة الإعلام برمتها دائرة الريبة والشك والتهافت الأخلاقي والقيمي والمهني، بعد أن اختلطت ثلاثية الإعلام الأزلية: إعلامي – حدث – مواطن، ليصبح المواطن إعلامياً، والإعلامي ناقلاً عن صحافة المواطن، والحدث سجال بينهما، والحقيقة في منأى عن كليهما.