مجلة البعث الأسبوعية

الأحياء المحررة في دير الزور.. تفاصيل قاسية ومتطلبات ضخمة والنجاح مشروط بتكامل الجهود بين الجهات المعنية والمواطن!!

“البعث الأسبوعية” ــ وائل حميدي

شدّهم إليها انتماؤهم للمكان ووجعهم الكبير حين تركوها هرباً من تمركز المسلحين في حاراتها وأزقتها نهاية عام ٢٠١١، بعضهم عاد إليها مع الأيام الأولى لتحريرها ليبدأ إزالة ما خلّفته الحرب عن بقايا بيته، وبعضهم لم يترك الديار رغم ضراوة الحرب وقسوتها، فكُتب عليه أن يكون من الناجين بأعجوبة من جهل المسلحين والمرتزقة على اختلاف تسمياتهم وتبعيتهم، ممن احتلوا حارات المدينة وسلبوا ممتلكاتها.

الأحياء المحررة في مدينة دير الزور، وما شهدته من تفاصيل قاسية، عادت لتستقبل أبناءها من جديد بعدما تدخلت الحكومة وفق ما أمكن لتأهيل بناها التحتية، ما أتاح إمكانية العيش فيها من جديد، ولكن الغصة تبقى موجعة مقارنة بما كان الحال وما آل إليه.

 

لمحة سريعة

مع استعادة كامل أراضي محافظة دير الزور، نهاية عام ٢٠١٧، على يد أبطال الجيش العربي السوري، بعد حصار استمر ثلاث سنوات، عاد أكثر من مليون من الأهالي، وكانت حصة المدينة ما يقارب ٤٢٥ ألفاً منهم؛ وهؤلاء لا يمكنهم التقوقع في الأحياء الآمنة، وبالتالي كان التحرك السريع لإعادة تأهيل البنى التحتية في الأحياء المحررة، وتخفيف الضغط على الأحياء الآمنة، حيث تمت إعادة البنى التحتية إلى غالبية الأحياء، باستثناء تلك التي تعاني من دمار كبير، والتي بدأت الحكومة فيما بعد التعامل معها وفق خصوصية وضعها.

 

المياه أولاً

يؤكد مدير عام مؤسسة مياه دير الزور، المهندس ربيع العلي، أن المؤسسة لم تتأخر في الدخول إلى الأحياء المحررة، حيث عملت ورشاتها على إعادة تأهيل شبكة المياه بدءاً من حي الموظفين، وانتهاء بحي المطار القديم والصناعة، مروراً بأحياء الجبيلة والحميدية والشيخ ياسين والعرضي وگنامات وخسارات وغيرها. يضيف العلي بأن ضخ المياه في الشبكة كان له الأثر المباشر في تحفيز المواطنين على العودة، رغم ما تعانيه المؤسسة من ضعف الإمكانات، مشيراً إلى أن الورشات استطاعت بإخلاصها وتصميمها تبديل وترميم الشبكة بالعودة إلى مستودع الهوالك والاستفادة منه ما أمكن، موفرة المال ومتجاوزة صعوبة تأمين القطع التبديلية في ظروف الحصار الظالم المفروض على سورية من قبل أعداء الإنسانية.

 

.. والكهرباء أيضاً

مع توفر المياه، كان لابد من تأمين الكهرباء؛ وهنا، لابد من التذكير بأن مدينة دير الزور عاشت في “ظلام دامس مدة ثلاث سنوات كاملة”، وهو ما أضاف اهتراءً حقيقياً على الشبكة وتجهيزاتها، وما عانته الحالة الفنية لأعمدة الكهرباء داخل الأحياء المحررة، وما تعرضت له الشبكة من تجريد حاقد لأسلاك الربط واستخراج النحاس من المحولات التي تبلغ قيمة كل منها ملايين الليرات السورية، طمعاً ببضعة كيلوغرامات من النحاس، ما وضع شركة كهرباء دير الزور أمام عمل مضاعف في أعمال التأهيل والتغذية التي سَرَت تباعاً، بدءاً بأحياء المربع الأمني وانتهاءً بأبعدها، ومنها حيَّا المطار القديم والصناعة.

 

في الأحياء المحررة

“البعث الأسبوعية” زارت الأحياء المحررة جميعاً، واطلعت على الواقع المعيشي للمواطنين هناك، وما يعانونه من نواقص أساسية وضرورية لا تزال أسيرة وعود لا يمكن الاكتفاء بإلقاء اللوم فيها على الحكومة قياساً بحجم العمل الكبير الذي تقوم به، وكلفة تأمين كافة المستلزمات، مع ما وضعته في خططها من أولويات، وفق الحاجة، أو الاستغناء المؤقت لحين إمكانية تأمينها.

 

الخبز أولاً

يقول بعض أبناء الحميدية، الحي الأكبر من حيث المساحة في المدينة، أن كافة المخابز خرجت عن الخدمة بفعل الحرب، وأن جميع العائدين يعتمدون في تأمين رغيفهم على معتمد وحيد قام بتدوين أسماء العوائل جميعاً (٦٨٨ عائلة) لتأمين الخبز لها من حي الموظفين، الأقرب للحميدية؛ وسواء كانت نوعية الخبز جيدة أم لا، فإن توفره أمر جيد، مع كامل الأماني بأن يتم تأمين فرن خاص بالحي. وكان محافظ المدينة فاضل نجار أشار إلى أن الأعمال الجارية لعودة إقلاع الفرن الآلي الثاني دخلت مراحلها الأخيرة، وهو ما أكده مدير التموين وحماية المستهلك بسام هزاع بأن الأيام القادمة ستشهد بدء إنتاج الخبز في فرن الحميدية، وتجاوز المشكلة.

 

نقطة شرطيّة

يضيف أبناء الحميدية بأن مسألة الأمان من أهم الأمور الواجب تأمينها، حيث لا وجود لنقطة شرطية تبعث على الشعور الحقيقي بالأمان، مؤكدين أن أقرب نقطة تقع في شارع سينما فؤاء، وأخرى لا تبعد عنها تتمثل في التجمّع الشرطي المتاخم لسوق الهال، وأن الحي يتبع جغرافياً للقسم الشرقي الذي يتواجد الآن في أقصى المدينة، مستغربين عدم عودته إلى مكانه السابق، وبالتالي الحد المباشر من ظاهرة سرقة المنازل الفارغة، او حتى سرقة المنازل التي بدأ أصحابها إعادة تأهيلها، مستذكرين أمثلة كثيرة عن سرقات شبه يومية، إذ من غير المعقول أن يتم تركيب خلاطات ومستلزمات مياه في منزل ما وتتم سرقتها في اليوم التالي؛ والحال ينطبق أيضاً على تركيب الأبواب والنوافذ والأكبال الكهربائية، وما إلى ذلك.

 

عودة مركز الانطلاق

ويستغرب البعض عدم تحرك الحكومة لإعادة تفعيل مركز الانطلاق القديم، عند مدخل حي الحميدية المحرر من الجهة الغربية، مؤكدين أن تفعيله يعني حركة في المكان على مدار الساعة، وبالتالي شعوراً إضافياً بالأمن وانعداماً تدريجياً لظاهرة السرقات التي أرّقت المواطنين الذين قرر بعضهم اقتناء كلاب في منازلهم، رغم أن وجود الكلاب – كما أشار آخرون – قد يُعرّض المارة للعض ويدفع للخوف من التجول حتى في ساعات النهار.

وفي هذا الإطار، بدت مشكلة تأمين التنقل بين الأحياء المحررة باتجاه مركز المدينة متعبة جداً، إذ لا يوجد لغاية اليوم أي باص نقل داخلي يتم اعتماده لعمق تلك الأحياء، بما يخفف من كلفة التنقل، حيث بلغت أجرة التكسي من الأحياء الآمنة إلى الأحياء المحررة ألفي ليرة سورية نهاراً، وخمسة آلاف مساءً. وللتذكير فإن غالبية قاطني الأحياء المحررة هم من موظفي الدولة، وبالتالي لابد لهم من التوجه لدوائرهم بشكل يومي، ما يضعهم أمام تكاليف لا تطاق؛ ويبدو الحل الوحيد – حسب رأيهم – إما تخصيص تلك الأحياء بباص نقل داخلي، أو إيجاد خط يخترق تلك الأحياء، وإلزام سرافيس النقل الداخلي به لتجاوز المشكلة.

 

لا مدرسة ثانوية

في حي الشيخ ياسين، لا وجود لأي مدرسة إعدادية أو ثانوية، وإعادة تأهيل بعض المدارس الابتدائية – كما أكد أبناء الحي وأيّدهم أبناء حي المطار القديم – لا يعني تأمين تلقي الطلبة لكامل علومهم، إذ هناك مدرسة إعدادية وحيدة بات الدوام فيها مختلطاً بين الإناث والذكور، مع ما تتعرض له الطالبات من مشاكل تبدو مزعجة جداً؛ والمشكلة أكبر في المرحلة الثانوية، حيث خلت كافة الأحياء المحررة من ثانوية للبنات. وفي هذا الإطار، أشارت مديرة مدرسة آمنة الزهرية، السيدة وداد الحسين، إلى أن تعليمات صدرت لتخصيص طالبات “الإعدادي” بشعبة في مدرستها الابتدائية، مضيفة بأن الكوادر التدريسية مؤمّنة، غير أن مسألة تأمين مدرسة ثانوية للبنات مقرونة بقرار لمديرية التربية التي ربما ستتحرك في هذا الإطار مطلع العام الدراسي القادم.

 

النظافة وغزو الحشرات والزواحف

خلال تجوالنا في الأحياء، لاحظنا وجود حاويات للقمامة هنا وهناك، ولكن الأهالي يشكون من خلل واضح في توزيع هذه الحاويات، إذ يتواجد بعضها في حارات على التوالي، بينما تخلو حارات كثيرة منها. وتتفق آراء المواطنين على أن مجلس المدينة تراجع في مكافحته لظاهرة انتشار الحشرات والزواحف، حيث بدأ أعمال المكافحة قبل أكثر من عام، قبل أن يتراجع تماماً هذا العام، ما أعاد ظاهرة انتشار الظاهرة من جديد، وبعض تلك الزواحف سام جداً، وأبرزها العقارب والأفاعي التي نشطت في موسم الحر ما جعل قاطني تلك الأحياء في خطر محدق.

 

نقطة طبية

تعتمد كافة الأحياء المحررة في الأمور الإسعافية الطارئة على فرع منظمة الهلال الأحمر، الذي لا يتأخر في التجاوب مع الحالات الإسعافية، إلا أن هذا التجاوب قد لا يكون بالسرعة الكافية لمريض قد يحتاج إلى كل دقيقة لإنقاذه – وفق ما يؤكد المواطنون – مع ملاحظة أن فِرق إسعاف الهلال تكتفي بإيصال المريض إلى مشفى الأسد، ما يضع المريض – حال تجاوز وضعه الصحي – أمام مسألة العودة إلى تلك الأحياء؛ وبالتالي فإن إيجاد مركز صحي، وعلى مدار الساعة، على غاية من الأهمية. وفي هذا الإطار، أشار مدير صحة دير الزور، الدكتور بشار شعيبي، إلى أن مقر العيادات الشاملة تمت إعادة تأهيله بالكامل من حيث البناء، بعد ما تعرض له من دمار كبير، وقد باتت مسألة افتتاح العيادات، ومقرها مدخل حي الحميدية من جهة الحديقة المركزية، مقرونة بتأمين التجهيزات الطبية أولاً، والكوادر الطبية المختصة ثانياً، وكلا الأمرين متمم للآخر؛ مضيفاً بأن الأمر تم إدراجه في خطة المديرية بالتنسيق مع وزارة الصحة، ما يعني ان افتتاح تلك العيادات مقرون بما يمكن تأمينه من تجهيزات طبية، ولو بالحد الأدنى، منهياً حديثه بأن هذه العيادات سيتم افتتاحها قريباً وفق الخطة التي تم وضعها بالتنسيق بين مديرية صحة دير الزور والوزارة.

 

أبنية آيلة للسقوط

من الطبيعي جداً أن تتواجد في الأحياء التي تم تحريرها من الإرهاب أبنية متصدعة شهدت كل فصول الحرب، مع التذكير هنا بما فعله الإرهابيون من تلغيم وتفجير للعديد من المباني، ومن ضمنها الدوائر الحكومية. وبعيداً عن التفاصيل، فإن ضريبة تحرير الأحياء من محتلّيها الجُدد كانت كبيرة جداً، أهمها ما تعرضت له من تصدعات وقذائف أخرجتها عن حالتها الفنية لتصبح خطرة وآيلة للسقوط في أي ساعة.

وللأمانة الصحفية، فقد تم مؤخراً رصد واقع تلك الأبنية عبر لجان فنية مختصة استطاعت الخروج بتقرير مفصل، أكد مجلس مدينة دير الزور، بناءً عليه، عبر صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، أنه سيبدأ إزالة تلك الأبنية، وزوّد الصفحة بصور عنها كاملة، لوضع أصحابها في صورة الأمر لتتم الإزالة بشكل قانوني. وعملياً، فقد بدأت عمليات الإزالة بشكل تدريجي، ووفق الحالة الفنية للأشد خطورة ثم الأدنى فالأدنى. ولكن مسألة الإزالة تحتاج إلى وقت ربما ليس بالقصير، ما يعني أن الخطر ما زال قائماً، ما يحتم على مجلس المدينة مضاعفة الجهد لتنفيذ أعماله، مع ما نعلمه عن إمكانات المجلس المتواضعة.

 

لنا كلمة

إذا ما أدركنا أن الأعمال المطلوبة من الجهات المعنية بعد حرب ظالمة هي كبيرة جداً، وأنها لا تتأخر في تنفيذها حين تسعفها إمكاناتها، وأن ما تم بناؤه في أربعين عاماً لا يمكن إعادة بنائه في أيام بعدما تعرض للتخريب والدمار الممنهجين.. حينها فقط تكون المسؤولية مشتركة بين المواطن والحكومة التي تبذل قصارى جهدها للعودة بالأمور إلى سابق عهدها، وهي التي فتحت المجال أمام كافة المنظمات لتقديم ما يمكن تقديمه، ويكون لها يد في تأهيل ما يمكن تأهيله، وتقديم بعض الدعم لمشاريع صغيرة تم افتتاحها داخل الأحياء المحررة من قبل بعض القاطنين لتعزيز عودة الحياة الاقتصادية ودعم الأسر اقتصادياً لتجاوز الظروف الصعبة والقاسية.

هذا التكامل في الأدوار بين حكومة ساعية لعودة الحياة، وبين مواطن يصر على الحياة، سيجعل من تجاوز ويلات الحرب أكثر سهولة، إذ ليس من المنطقي أن ننتظر من الحكومة كل شيء، وليس من المنطق أن ترمي الحكومة بكافة المهام على مواطن شاطر وطنه التعب وضعف الحيلة. ومن هذا كله، علينا أن نعي صعوبة الأمر، وأن نضع أهدافاً عملية قابلة للتنفيذ، بحيث يكون المواطن اليد التي تُكمل عمل الحكومة، وتتفهم صعوبة الوضع.