رأيصحيفة البعث

أبعد من الإقرار بتدمير “الرقة”

أحمد حسن 

لأسباب معتادة ومعروفة سلفاً، لم يخرج تقرير مؤسسة “راند” حول تدمير الرقة على يد المحتّل الأمريكي، عام 2017، عن المتوقع، فالتقرير كُتب، أولاً، بناء على طلب وزارة الددفاع الأمريكية، ثم إن “الطلب” لم يحصل، ثانياً، إلا بعد انكشاف الجريمة على العلن، وبدء تناولها إعلامياً حتى في الداخل الأمريكي، فيما “مؤسسة راند”، ثالثاً، هي إحدى أهم الأذرع الناعمة للمشروع الإمبراطوري الأمريكي الأكبر، وكلها مقدّمات لا يمكن أن تنتج إلا ما خبرناه وعرفناه من كيفية اللعب على الوقائع لعدم دفع ثمن الجريمة.

وللحقيقة، فإن التقرير يحفل بكل ألعاب “العم سام” المعروفة، فهو يبدأ بـ “رصانة” منهجية وبحثية يقدم فيها أرقاماً صادمة حول تدمير المدينة بحجة مواجهة “داعش” ليصل إلى ما يبتغيه من خلاصات لا تتفق أبداً مع المقدمات المعروضة.

فهو، بداية، يعترف أن المدينة “تعرّضت لأضرار هيكلية” أكبر من أي مدينة سورية، فقد كان هناك بعد انتهاء العملية “من 60% إلى 80% من المدينة غير صالح للسكن، حيث تمّ، بحسب الأمم المتحدة، تدمير أو إلحاق أضرار بأحد عشر ألف مبنى بين شباط وتشرين الأول 2017، بما في ذلك 8 مستشفيات و29 مسجداً، وأكثر من 40 مدرسة وخمس جامعات بالإضافة إلى نظام الري في المدينة”، فيما سقط عدد “يتراوح بين 744 و1600 قتيل بحسب إحصائيات التحالف ومنظمة العفو الدولية وموقع إيروورز المتخصص”، لكنه، وبعد كل هذه الحقائق والوقائع المروّعة، يصل، هذا التقرير، إلى خلاصتين نهائيتين لا يمكن لأي مراقب حيادي تفهمها.

ففيما قالت الخلاصة الأولى إن “الجيش الأميركي الذي نفّذ 95% من الضربات الجوية، وشنّ ما نسبته 100% من نيران المدفعية خلال معركة الرقة”، كان بإمكانه التقليل من هذا التدمير، قالت الثانية أن هذا الجيش “لم يرتكب أيّ جرائم حرب خلال تلك المعركة”، وتلك مفارقة – وخلاصة “أورويلية بامتياز – لا تليق إلا بمركز تفكير غربي “محترم”!! مثل “راند”، وفي بلد “ديمقراطي” كبير!! مثل أمريكا، بلد تسمى فيه الوزارة التي أشرفت على ما ينوف عن مائة وخمسين اعتداء عسكري علني، وأكثر منها بكثير من العمليات السرية لإسقاط أنظمة منتخبة شعبياً على امتداد رقعة العالم باسم “وزارة الدفاع”!! وتطلق على ضحايا هذه الجرائم، والذين يقدّر عددهم بالملايين من البشر، صفة “أضرار جانبية”!!.

بهذا المعنى يبدو “الاعتراف” أمراً مخاتلاً وفاجراً، وحتى متباهياً بالجريمة، خاصة أن ما تبعه فوراً كان تبرئة للمجرم مما ارتكبت يداه، باعتبار أن ما حصل خطأ كان يمكن تفاديه وليس جريمة حرب ارتكبت بدم بارد، بما يشي بأن للاعتراف وظيفة، أو وظائف، أخرى منها سدّ الطريق على الجهات الأخرى لتناول الجريمة وتفنيدها، فقد اعترف الفاعل، وإن مواربة، بفعلته وهذا كاف، لكن لهذا “الاعتراف” وظيفة أخرى أهم وهي أن يقوم، في السياق الذرائعي الأمريكي، بدور “فعل” تطهّري ذاتي تجعل من صاحبه نظيفاً بريئاً وكأنه “ولد من جديد” على “جبلته” الأولى، وذلك أمر معروف في امبراطورية قامت على الجريمة المستمرة.

المهم أن “الاعتراف” حصل، وإن كان ناقصاً ومتأخراً ومنافقاً أيضاً، وتلك نقطة مهمة يجب التمسّك بها للبناء عليها لاحقاً في ترسيخ حق الضحايا، والحكومة السورية طبعاً، بالمطالبة بتطبيق القانون الدولي على المجرم، وهذا أمر ليس مستحيلاً، فعلى الرغم من واقع “المجتمع الدولي” الحالي الظالم والفاجر إلا أن يوم الحساب ليس ببعيد..