ثقافةصحيفة البعث

قصة “عيد البربارة”

مادلين جليس

في عشية الثالث والرابع من كانون الأول، تبدأ الأقنعة بالظهور على الأوجه الطفولية، وتبدأ الأقدام الصغيرة تتنقّل بين البيوت واحداً تلو الآخر، إنه ليس عيد الهالويين، بل هو عيد البربارة، أو كما يسميه كثيرون عيد القديسة بربارة.

“هاشلة بربارة مع بنات الحارة”، و”أرغيلة فوق أرغيلة صاحبة البيت زنغيلة”، و”شيحة فوق شيحة صاحبة البيت منيحة”، بهذه الأغنيات الشعبية يطوف الأطفال بين البيوت، يطالبون بحصصهم من الحلوى والمكسرات في العيد.

يعتبر عيد القديسة بربارة من أقدم التقاليد في الكنائس المسيحية، ويصادف يوم الرابع من كانون الأول لدى الطوائف الغربية، بينما يصادف يوم السابع عشر عند الطوائف الشرقية، وتعتبر هذه القديسة من أوائل الشهداء المسيحيين في عصور انتشار الديانة المسيحية المبكرة، ويقال إنه قبل انتشار الأزياء التنكرية، كما هو شائع اليوم، فإن أهل القرى كانوا يلونون وجوههم، ويرتدون ملابس بالية قديمة وخرقاً ملونة، ويقومون بعد ذلك بجولاتهم الليلية وتبادل الحلوى، بعد أداء طقوس القداس إكراماً لبربارة. أما المأكولات التي تصنع في هذا العيد فهي ترتبط بقصة القديسة بربارة، حيث يتمّ إعداد القمح المسلوق المنكه باليانسون، والقرفة، والسكر، وحبات الجوز، واللوز.

بربارة.. الصبية الجميلة

وعلى الرغم من عدم وجود مراجع دقيقة توثّق حياة القديسة بربارة، وتروى أحداث قصتها كما جرت، إلا أن السائد بين الجميع أنها عاشت في القرن الثالث عشر الميلادي، في مدينة بعلبك الواقعة في لبنان اليوم، في حين يرى آخرون أنّها ولدت في مدينة نيقوميديا الواقعة في تركيا حالياً. أما قصة هذا العيد، أو قصة القديسة بربارة، فهي – كما تروي الأساطير – أن بربارة كانت ابنة نبيل يوناني ثري، متعصّب لوثنيته، كما أنه كان يخاف على ابنته الفائقة الجمال من عيون الناس، ولهذا فقد بنى لها برجاً عالياً. وظلت بربارة حبيسة البرج طيلة فترة طفولتها وشبابها، حتى أن الخدم والمعلمين كان يزورونها في برجها لتزويدها بالطعام والشراب ولتعليمها أيضاً.

كانت بربارة مفعمة بالحياة، وقد استمدت من البرج العالي عادة تأمل الطبيعة، وحركة الفصول وتعاقب الليل والنهار وحركة الشمس والقمر، ولذلك فإن هذه التأمل جعلها تخلص إلى قناعة أن خالق هذه الطبيعة الرائعة لا يمكن أن يكون من الأصنام التي يعبدها والدها وأهل قريتها.

لكن ذلك الاكتشاف لم يتوقف عند هذا الحدّ، فقد قام أحد مدرسيها المسيحيين بتعريفها على الإنجيل، وقرّرت بعد ذلك أن تكرس حياتها للمسيح، وأن تنال المعمودية سراً، وبالتالي أن ترفض كل عروض الزواج التي كانت تقدم لها. اكتشاف الإيمان، ورفض بربارة المتكرر لعروض الزواج، وامتناعها عن قبول أي شاب، جعل والدها يشكك بتأثير معتقدات المسيحية عليها، فقد أصبح في موقف محرج أمام نبلاء قومه، وهذا ما جعله يضغط عليها ليعرف سبب رفضها للزواج.

بعد الضغط الكبير اعترفت بربارة وصارحت والدها بإيمانها، الأمر الذي أغضبه جداً وجعله يلجأ لقتلها، إلا أنها هربت منه وصارت تركض في الحقول والبراري، ولشدة خوفها من أن يعرف والدها مكانها، صارت بربارة تلوّن وجهها وتلف نفسها بملابس بالية ممزقة، كما أنها كانت تحتمي بين سنابل القمح وتتخذ من حقوله ملجأ لها، لكن ذلك لم ينجح، فقد تمكن أحد الرعاة من التعرّف إليها بسبب جمال عينيها ورقة يديها، وكما تقول الأغنية الفلكلورية: “هاشلة بربارة مع بنات الحارة، عرفتها من عينيها ومن لمسة إيديها، ومن هاك الأسوارة”.

النهاية الحزينة، نهاية بربارة، كانت عندما استطاع والدها إلقاء القبض عليها، حيث جلدها أمام الناس. وبحسب المرويات والمعتقدات، فإن الصبية الجميلة استنجدت بالمسيح كي يلفّها بالنور كي لا يرى الناس جسدها بعد أن تجردت من ملابسها بسبب تعذيب والدها، ورغم كلّ التعذيب الذي نالته إلا أن جراح بربارة كانت في كل مرة تُشفى، ومع ذلك لم تتخلَ عن إيمانها، بل ظلت مصرّة عليه، الأمر الذي جعل والدها يلجأ للحاكم كي يقطع رأسها، وفعلاً أصدر الحاكم الحكم بذلك.

في ذلك الوقت تأثرت شابة أخرى، وتدعى يوليانة، بقصة بربارة، وهبّت لنجدتها وأعلنت إيمانها بالمسيح، لكن ذلك لم ينجح، فقتلت الاثنتان معاً، وتعتبران شهيدتين من شهداء الكنيسة الأولى. وقد تناقل الناس الكثير من الأمثال المرتبة بيوم البربارة، ومنها “بعيد البربارة بتطلع الميّ من وكر الفارة” لغزارة المطر في هذا الوقت من العام، و”في عيد البربارة بياخد النهار من الليل أخباره”، وهنا يقصدون أخبار السيدة بربارة. ومن الأمثال المتناقلة أيضاً “بين الميليدة والبربارة عبي قمحك بالكوارة”، أي لا فائدة من زرعة القمح بين عيدي الميلاد والبربارة لأنها تكون قد تأخرت كثيراً ولن تعطي موسماً جيداً آخر العام.