مجلة البعث الأسبوعية

باريس وبرلين في الواجهة.. هل تمكّن الغرب من كسب الوقت عبر اتفاقية مينسك؟

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:

لم يعُد مستغرباً الآن قيام روسيا بعمليّتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، حيث أثبتت التصريحات الأخيرة التي أدلى بها كل من المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند والرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو، أن الغرب الجماعي كان يسعى من وراء اتفاقية مينسك مع روسيا إلى كسب الوقت وخداع روسيا والمجتمع الدولي حول جديّة هذا الاتفاق، فالغرب الجماعي ممثّلاً بحلف شمال الأطلسي “ناتو”، وفرنسا وألمانيا عضوان أساسيان فيه، كان يحاول كسب الوقت من أجل إتاحة المجال للنظام الأوكراني للتسلّح بشكل هادئ استعداداً لمواجهة عسكرية مع روسيا، وهذا طبعاً يفترض أن الحلف كان يسعى إلى تحيّن الفرصة للانقضاض على روسيا عبر النظام الأوكراني الدمية الذي أريد له أن يكون فخّاً منصوباً للإيقاع بروسيا، ولكن شاءت الظروف أن يعجز هذا الغرب عن الاستمرار في لعبته حتى النهاية، عندما طلبت منه موسكو رسمياً تقديم ضمانات أمنية لها حول عدم قيام الحلف بالتوسّع شرقاً، الأمر الذي جعل العملية العسكرية الروسية الخاصة شرّاً لابد منه في مواجهة هذا الشغف الغربي الواضح باستخدام الألاعيب والأكاذيب لتخدير روسيا ومنعها من التفكير بالنية السلبية التي يضمرها لها.

تصريحات ميركل لصحيفة Zeit بأن اتفاقيات مينسك، كانت تهدف إلى منح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية، وأنها لم تنهِ الأزمة في شرق أوكرانيا، إلا أنها جمّدتها لفترة من الزمن، لأن حلف الناتو لم يكن قادراً على إمداد قوات كييف بالأسلحة خلال تلك الفترة، بالوتيرة ذاتها التي يقدّمها اليوم، أكدت أن الغرب لم يكن صادقاً مطلقاً في الحوار مع روسيا، وأنه لا يوجد جانب مشرق في الغرب وآخر مظلم، بل إن الغرب الجماعي كما تحب موسكو أن تطلق عليه يشترك في صفة واحدة هي العداء المطلق لروسيا والرغبة الجامحة في التخلّص منها وفرض ما تسمّى القيم الغربية على العالم.

ففي الوقت الذي نصّت فيه اتفاقيات مينسك على حل الأزمة في شرق أوكرانيا ووقف إطلاق النار، وسحب الأسلحة الثقيلة من خطوط التماس، وعدم التعرّض للمدنيين المتحدثين بالروسية في تلك المناطق، لم يمارس الوسطاء الغربيون أيّ ضغوط على كييف لتنفيذ التزاماتها والكف عن الاضطهاد والإبادة الجماعية بحق سكان مناطق دونيتسك، ولوغانسك، على خلفية عرقهم الروسي.

هذا التصريح غير المتوقّع استدرج عدداً من ردود الأفعال الغاضبة وربما المؤيّدة لموسكو في كل ما تقوم به، فنائب المستشار النمساوي السابق، هاينز كريستيان ستراش قال: إن تصريح المستشارة الألمانية السابقة حول الأهداف الحقيقية لاتفاقيات مينسك مخيف ويقوّض الإيمان بقوة كلمة السياسيين الأوروبيين.

بدوره، أعلن الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، أن تصريح ميركل، بشأن اتفاقيات مينسك، تاريخي ويغيّر الموقف ممّا كان يحدث في أوكرانيا منذ عام 2014.

وقال فوتشيتش: “كنا جميعاً حاضرين في البيان المهم تاريخياً للمستشارة الألمانية السابقة، لقد فوجئت… بالنسبة لي فإن هذه الفكرة غير معقولة تقريباً، لكن تم تأكيدها بما قاله الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو ومفاده أنهم لم ينووا أبداً تنفيذ اتفاقيات مينسك، وهذا ما يعرض الوضع القائم بمشهد جديد تماماً”.

وأضاف: “لا يغيّر ذلك من هاجم مَن، لكنه يغيّر الموقف مما كان يحدث منذ عام 2014”.

وقد أشارت صحيفة غلوبال تايمز الصينية إلى أن تصريح ميركل بشأن اتفاقيات مينسك أظهر الموقف المنافق للغرب الجماعي تجاه روسيا، كما أظهر هذا الموقف أن بعض الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، لا تفي بعهودها على الإطلاق ويمكنها بسهولة التراجع عن كلماتها.

ولكن أخطر ما جاء في حديث ميركل هو أنها ترى أن دول الناتو في السابق لم تكن قادرة على تقديم الدعم لأوكرانيا بالقدر الذي تقدّمه الآن، وهو ما يشكّل اعترافاً صريحاً منها بأن الغرب كان يخطّط فعلاً إلى استدراج روسيا إلى الحرب مع أوكرانيا بالوكالة عنه، الأمر الذي دفع الخارجية الروسية إلى القول: إن أقوال ميركل بمنزلة دعوى للمحكمة للنظر فيها.

وفي الصدد، قال أستاذ العلوم السياسية الألماني ألكسندر راهر: “إذا كان كلام ميركل دليلاً حقيقياً على أن المطلوب من اتفاقيات مينسك كان التسليح “الهادئ” لكييف، فليس روسيا وحدها، وإنما الصين والهند، ودول أخرى ستنظر بريبة إلى ألمانيا. سيكون هذا تأكيداً لعدم إمكانية الثقة بالدبلوماسية الأوروبية”.

تصريح ميركل هذا عاد الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند ليؤكده بقوله: إن اتفاقات “مينسك” سمحت للجيش الأوكراني أن يصبح أقوى و”عرقلت الهجوم الروسي لبعض الوقت”.

وقال هولاند: “عزّزت أوكرانيا إمكاناتها العسكرية منذ عام 2014، وأصبح الجيش الأوكراني مختلفاً تماماً. إنه أفضل تدريباً وتجهيزاً. ميزة اتفاقيات “مينسك” أنها وفّرت للجيش الأوكراني مثل هذه الفرصة”.

وردّاً عليه، قال السياسي الفرنسي فرانسوا أسيلينو: إن اعتراف رئيس فرنسا السابق باستخدام اتفاقيات مينسك لمنح أوكرانيا الوقت لتقوية جيشها يؤكد صحة الطرح الروسي حول عدم نزاهة الغرب.

وأشار أسيلينو، الذي يتزعم حزب الاتحاد الجمهوري الشعبي الفرنسي، إلى أن مثل هذه الاعترافات تقوّض صدقية الغرب في بقية العالم.

وأضاف السياسي الفرنسي: “كان من الغريب أن يدلي هولاند بمثل هذا التصريح، لأنه يفضح بلدان الغرب ويؤكد أنها كاذبة، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يثق بها. وهذا يعطي وزناً إضافياً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما يتحدث عن إمبراطورية الأكاذيب التي يمثلها المعسكر الغربي”.

وأعرب السياسي عن أسفه لغياب “الصدق الفكري” بين قيادات الدول الغربية ووسائل الإعلام الغربية، وقال: إنه “يتفهّم حجج روسيا” في السياق الأمني.

ووفقاً له، يتم خلال النزاع الحالي، تحديد مصير النظام العالمي المستقبلي، الذي سيكون إما بقيادة الغرب بزعامة واشنطن، وإما بقيادة الحضارات المتنوعة لمختلف الشعوب.

الردّ الروسي الواضح على هولاند جاء من نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي قسطنطين كوساتشيف الذي قال: “اعترافات ميركل وهولاند هي اعتراف مسجّل بالخيانة. وتعرّض الجنوب الشرقي لأوكرانيا منذ البداية للخيانة من الغرب، على الرغم من الهرج اللفظي المحيط به. وكان ثمن هذه الخيانة سقوط آلاف الأرواح البشرية على مدى السنوات الثماني الماضية من الحرب الأهلية في أوكرانيا”.

وكل ما جاء على لسان الرئيس الفرنسي السابق والمستشارة الألمانية السابقة، أكّده الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو الذي أشار إلى أنه لم يكن مطلوباً منه على وجه التحديد تنفيذ الاتفاقيات وإنما التوقيع فقط، وبالتالي فإن الأمر لا يعدو كونه محاولة غربية لاحتواء روسيا من خلال الاتفاقية إلى حين التمكّن من تسليح الجيش الأوكراني لاستنزافها عسكرياً، وهذا ما استدرج ردّ فعل غاضباً من الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو الذي رعت بلاده الاتفاقية، حيث قال: “إذا كانوا يخدعون ويستعدّون للحرب، فهو أمر مثير للاشمئزاز، وما تقوله ميركل اليوم، هو رغبة في أن تكون في الصورة، ولا تريد أن تُلام على خلفية الأحداث في أوكرانيا. لقد شطبت كل ما فعلته لألمانيا والاتحاد الأوروبي، وكنا نأخذها على محمل الجدّ. كما ترون ارتكبنا خطأ، اتضح أنها تافهة مثل جميع قادة أوروبا اليوم”.

ومن كل ما تقدّم يبدو أن هناك سؤالين تجب الإجابة عنهما، وهما: هل تمكّن الغرب فعلاً من كسب الوقت عبر هذه الاتفاقية؟ وهل كانت باريس وبرلين واجهة فقط لتنفيذ رغبات لندن وواشنطن في خداع روسيا؟.

ربّما استطاع الغرب خداع روسيا عبر هذه الاتفاقية فترة من الزمن، ولكنه على وجه الحقيقة لم يتمكّن من منعها من تحديد موعد عمليّتها الخاصة لاجتثاث النازية من أوكرانيا، والقضاء على الحلم الغربي الكبير بصناعة وحش نازي آخر في أوروبا لخلافة هتلر وتهديد موسكو مجدّداً، بل إن العواصم الغربية الثلاث لندن وباريس وبرلين على موعد مع شتاء ساخن على خلفية التداعيات الخطيرة للخداع الذي مارسته لموسكو في اتفاقية مينسك.