ثقافة

لعبة القنص

عندما خرجت لزيارة صديقتي في حي الزهراء، راحت تراودني فكرة القنص، ولأوَّل مرَّة يتسلل إلى داخلي شعور العصافير بأسئلتها التي أتوقَّعها، وأحسب أنها تفكِّر بها. هل هي تخشى القنص حقيقة؟ أم أنها تطير دون أن تتوقَّع أي شر، أم الخوف من القنص أصبح لديها غريزة متوارثة؟ هل الصياد يتوقَّع أن العصافير لا تتألم من الإصابة؟ لو كانت تمتلك لغة الكلام، فبأية لغة سوف تلعن الصيَّاد؟ وهل بإمكان صوتها أن يسمعه صدى ألمها؟
حزنت لأن العصافير لم يدافع عنها أحد، وأننا جميعاً قد تحوَّلنا إلى عصافير يستهدفها القنص.
هي لعبة شطرنج كبيرة مكانها مسرح الحياة، زمانها في أية لحظة. لم تتوقَّف اللعبة على العصافير فقط، بل فُتحت لتكون مرتعاً واسعاً لحالات من القنص تصيب من يستهويها دونما تفريق.
كيف تُقنص الوظيفة من أمام عينيك، وأنت الأجدر بها؟! هي جدلية مَنْ ومتى وكيف وأين.. تتواكب عبر الزمن، هي متوارثة تدخل في جينات البشرية بدليل الكم الهائل من الروايات والقصص والكتب والمسلسلات والأفلام التي تلعن الظلم، وتقارع الشر ولا من مجيب. وحدها المصلحة الشخصيَّة من تقرض نفسها في اللعبة.
من المؤسف أن أساتذتها كثر، ومنتشرون في كل زاوية وبقعة، دروسهم يحفظها كل من يجالسهم أما الأجرة فهي على حسب المزاج.
مَن منا لم تمارس عليه لعبة القنص، في المدرسة حين تقنص أشعارك وتكتب باسم صاحب الأمر، ما عليك سوى أن تبكي قليلاً وتصمت. قد تقنص منك علاماتك، والمبرر خطأ في الجمع.. أو قد تمارس عليك اللعبة من فوق وبشتى الألوان والطرق، فما عليك سوى الحسرة والصمت.
في البيت يقنص منك حضن أمك، مكانك.. ثيابك.. وربَّما لا يبقى لك حتى موطئ قدم، وحده اسمك يقبع على ورقات دفتر العائلة المهترئ، وفي أحيانٍ كثيرة قد يضيع الدفتر، أو ربَّما يتلف.
في الطريق يقنص منك الهواء النقي.. الشمس.. حتى السلام .. حتى راحة المسير، قد ترشُّك سيارة بالماء في انزلاق عجلاتها في الحفر، فتقنص منك نظافتك وراحتك النفسيَّة.
في المحلات، كم تنشط اللعبة، والمؤسف أنهم يدَّعون الوطنيَّة، والمضحك أنهم يريدون انتهاء الأزمة بسرعة.
في الموت، قد تجد من يقنص منك تراتيل الصلاة، وعندما يوشك الركب أن يوصلك إلى القبر، تتعرَّض لمن يقنص مكانك، أو ربَّما يضيِّق عليك المساحة، أو ربَّما تصل الأمور إلى دفنك في مقبرة تناسب هويتك.
قد تستغرب، حتى أوراق رحمتك الملصقة على الجدران تمارس عليها اللعبة فتُلصق فوقها أوراق جديدة حاجبين عنك حتى رحمة ربِّ العالمين.
لن نتجرَّأ على إقفال رقعة الشطرنج لأن ممارسي لعبة القنص قد يقنصون الرقعة من أساسها ليحولونها إلى مخازن وجيوب لأطماعهم التي لا ولن تنتهي أبداً.
سريعة حديد