ثقافة

توفيق أحمد: بالشــــعر أقبـــض علـــى الحلـــم الهـــــارب

توفيق أحمد من الأسماء الشعرية الهامة، والمعروفة، ليس في سورية فحسب، بل في الوطن العربي، هو شاعر ينحت في المشهد الشعري السوري بأناة الحكيم، والآثاري الذي يترقب اكتشافاً عظيماً، يشتغل على لغة شيقة تنتشل القاموس من وحشته، لتؤنسن الوحشي، وتجعله في متناول الذائقة.. توفيق أحمد اسم لا تخطئه الأذن، مادام يشكّل ملمحاً شعرياً هاماً من ملامح المشهد الشعري السوري.
منذ صدور مجموعته الأولى: (أكسر الوقت لأمشي)، بدأ بنسج ذاك القصيد الذي يأسر القلب والروح، ليذهب بنا إلى بوابات الحلم الجميل، وشرفات الأمل المفتوحة على نوارس البوح الذي لا ينسى.. مع الشاعر توفيق أحمد كان هذا الحوار:
< ما جدوى الشعر في هذا الزمن الرديء؟.
<< قد تكون الجدوى في الرداءة، ولكن أية جدوى؟ وأية رداءة؟.. على كل حال للشعر جدواه في كل المراحل باعتباره قائماً على صيانة حرير الحرية بفولاذ المعرفة، والتأسيس دائماً لرسالة أخلاقية، إنسانية، حضارية، تتكثف في المعنى، وتنهض تأثيراتها تدريجياً بمرور الزمن، وكيفية توصيل الفائدة والمغزى من هذه الرسالة العظيمة، والشعر وغيره من فنون الإبداع المحضة لا يحمل في جعبته قنبلة أينما رميتها تحدث أثراً سريعاً، وليس طائرة من دون طيار، أو مدفعاً، أو حتى قراراً سلطوياً ناجزاً، وإنما هو جرعة روحية ربما يشبه المياه في أحد جوانبه، وهي تجري باعثة نداها وخصبها، تواجه عبر التراب حشود اليباس، وطقوس المحل، وخيبات الجفاف، وبالتالي من مهمة الشعر أن تكون الجدوى راقدة بين مفرداته، وجمله، وموسيقاه، وأن تتسلل دائماً إلى أصابع الشاعر من خلال ذهنية تعرف أوجاع الحياة، وتختار لها النيرات من الأفكار، والبنى الفنية التي تحملها، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فالشعر والشاعر ليسا فارسين يدوران في كل ميدان.
< السياب، البياتي، وخليل حاوي، لم يكونوا يجيدون الإلقاء مثل نزار قباني، ومحمود درويش، إلى أي حد يتدخل الإلقاء في رفع سوية القصيدة، أو العكس؟.
<< المعروف في هذه الحالة هو الجواب الذي يشي به سؤالك، وهو أن إجادة الإلقاء تساهم في توصيل القصيدة إلى المتلقي بشكل مؤثر، هذا في حال أن الجمهور متعدد المستويات الاستيعابية، والثقافية خصوصاً، والمعرفية عموماً، لكن لي رأياً في هذه الموضوعة هو أنه إذا كانت القصيدة الملقاة هامة فيجب أن نحتفي بها بغض النظر عن رداءة، أو جودة الإلقاء، لأنها تستحق ذلك، والشاعر ليس مطلوباً منه أن يكون مذيعاً بارعاً، أو مطرباً حيوياً فقط، يمكن أن نتمنى على الشاعر أن يقرأ قصائده بإحساس عال، بحيث ينقل لنا المضامين ما أمكن، علماً أنني ممن يجيدون إلقاء الشعر بسبب ممارستي الطويلة لإلقائه.
< انهيار عرش  بحور الشعر العربي، وتمرد البعض على قصيدة التفعيلة لتبرير الذهاب إلى قصيدة النثر، إلى أي حد ساهم هذا في خراب الشعر؟.
<< هذا موضوع شائك، ومتداخل، وفيه من الفوضى ما فيه، وهي مسؤولية ناقدي الشعر، بغض النظر عما يواجهون من صعوبات حياتية، ومؤسساتية، وغيرها، أما أنا فلي رأي واضح بهذه المسألة، وهو أن من لا يحترم اللغة، ويفهمها، ويخبئها في دمائه، لا يستطيع أن يكتب أي لون من ألوان الشعر، ومهما أمضى من وقت، وتسويق، وتلميع، فإنه سيسقط على الطريق، وقصيدة النثر قصيدة هامة إذا امتلكت شروطها الحقيقية.
< في كل مرحلة من مراحل كتابتك للشعر، تلجأ للتجريب، هل هو انقلاب على ما سبق وكتبته شعرياً، أم ماذا؟.
<< لا أعرف جواباً حقيقياً عن هذا السؤال، ولكن ربما أنني مقتنع بضرورة الكتابة في كل الأشكال الشعرية، وأثناء كتابة القصيدة لا أمتلك قراراً مسبقاً، كما أنني لم أضع هدفاً واحداً خلال مسيرتي الشعرية للكتابة بهذا الشكل أو ذاك.
< قلت ذات مرة: «منذ عام 1988وحتى عام 2009 أصدرت ست مجموعات شعرية، إحداها على الأقل طبعت خمس مرات، وبعضها مرتين أو ثلاثاً، ولم أبع في حياتي إلا أربعين نسخة، ولديّ الكثير من القراء العرب المقيمين في دول أجنبية».. هل توضّح لنا ذلك؟.
<< لست مقتنعاً بجدوى بيع الشعر، ولو كنت مقتنعاً لما تحقق ذلك لا لي ولا لغيري، وعلاقاتي الأدبية واسعة، وقد شاركت في مهرجانات شعرية عديدة منها: (المربد في العراق، الجنادرية في السعودية، جرش في الأردن)، وأقمت أمسيات في بيروت، والقاهرة، وكنت سعيداً عندما ألقيت بعضاً من قصائدي في متحف شاعر العربية الكبير أحمد شوقي مع عدد من الشعراء العرب، وفي ميونخ بألمانيا، وصنعاء في اليمن، وتونس.
< العنوان عتبة دالة للولوج إلى عمق النص، عناوين مجموعاتك ليست بمجملها عتبات دالة للغوص قبل الإبحار في مداليلها، هل تتقصد فعل ذلك لإيقاع القارئ في كمين قصيدتك، أم هو حالة من المزاج الشعري؟.
<< لم يحصل معي أن وضعت عنواناً لمجموعة شعرية قبل كتابة قصائدها، ولكن عندما ألملم قصائد المجموعة لأطبعها في كتاب، أبحث كثيراً عن عنوان مناسب يوحي بمجمل الخيط الناظم لجميع القصائد، أما بالنسبة لمجموعتي الشعرية الأولى (أكسر الوقت وأمشي)، فكنت أقصد من العنوان ليس فقط العنوان للمجموعة، وإنما العنوان لما يجيش في صدري، وروحي تجاه الحياة.
< ثمة قلق، وأسى، وبعض الانكسار يتبدى في قصائدك، ماذا يعني هذا الشجن كله؟ وبالتالي هل وظيفة الشعر نشر الأسى، أم ماذا؟.
<< لا أعرف أحداً عاش في طفولته ويفاعته حياة بائسة مثلي، كما أنني لا أعرف أحداً تحدى وحشية البؤس والشقاء مثلي، ومن يكن كذلك، ويكتب شعراً، لابد أنه سيتبدى في بعض قصائده، وليس من وظيفة الشعر نشر الأسى، بل من مهماته الأساسية، توظيف هذا الشجن والأسى، ونقله من حالة فردية ذاتية إلى حالة معرفية جمعية تتسم قدر الإمكان بالإضاءة على تفاصيل الحياة، وكيفية تجاوز البائس منها، إلى ضفاف أخرى.
< يقال إن الشعر لم يعد ديوان العرب، وإن الرواية احتلت هذه المكانة، الشاعر توفيق أحمد، هل سيذهب إلى الرواية كما فعل الكثير من الشعراء؟.
** أجزم أنني لن أذهب إلى الرواية، ومن لا يستطع أن يكون الشعر وعاءه لقول ما يريد، فلن ينجح في الرواية، وبالتالي الشعر حالة تكثيفية، أما الرواية فحالة سردية، ولا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يكون بطلاً في النوعين، والحديث يطول جداً في هذا المنحى.
< ست مجموعات شعرية، هل هي المنجز الشعري الكامل للشاعر توفيق أحمد، لكي نقرأها في الأعمال الكاملة؟.
<< هذه المجموعات الست هي نتاج خمسة وثلاثين عاماً من التجربة، وأشعر بعد تجاوزي سن الخمسين أنني أكثر استعداداً لكتابة المزيد.
< إلى أي حد يتدخل، أو لنقل يتماهى توفيق الإنسان مع توفيق الشاعر؟.
<< يتداخلان، ويتماهيان إلى حد كبير، وربما في أحيان كثيرة لدرجة التوحد، وأحاول فصلهما في أحيان أخرى لضرورات الحياة والمجتمع، ولكن عندما أكون غافلاً يعودان للتماهي.
< للقصيدة حضورها وتألقها، ما هي الطقوس التي يمارسها الشاعر توفيق أحمد قبل وبعد كتابة القصيدة؟.
<< كثيراً ما شعرت في أوقات سابقة بعد انتهائي من كتابة قصيدة أنني عبرت المحيط في زحمة النوء، ورعب المسافات، والغَرَق المحتمل، وكثيراً ما سعدت جداً كطفل اشترى له أهله لعبة يحبها، أو كرجل معمار أنهى الجدران التي يبنيها دون انزلاقات تذكر.
وتثير فيّ القصيدة نوعاً من الارتباك الجنوني المبدع، فتراودني عن نفسي كل لحظة، كفتاة جميلة قريبة مني، وبعيدة في آن معاً، ولست أبالغ إذا قلت لك إنني أكتب القصيدة أحياناً، وأنا غارق في غفلة واعية، أو أكتبها وأنا خلف طاولتي مشغولاً بأدوات الوظيفة التي تستهلك كل خيوط النسيج اليومي، لاهثاً، راكضاً للقبض على الحلم الهارب، أكتب القصيدة أحياناً وأنا على مائدة الطعام التي يستغرقني أثناءها التفكير “المتوفز” الذي يغرس أصابعه في لحم الخيال المحلّق المبدع، وأخيراً عندما تأتي القصيدة أو بعضها فهي تلاحق صاحبها في كل وقت.
حاوره: أحمد عساف