ثقافة

حكايتان فوق الوسادة

محي الدين محمد
طريا كان العمر يوم خرجت من قشرة الأرض الريفية، وقد رأيت ماحولي، واستغرقني التأمل في كل الموجودات رغم أنها بعد طلوعها من بين الأصوات المحبوسة كانت تشبه بعض الرموز التي يحتاج معها الناظر إليها إلى تهيؤ ذهني، وتهيب معرفي، وربما تشكل فيما بينها علامات فارقة عبر تنوع مواضيعها وذلك لأنها لا تنحصر في مجال واحد فقط هو المجال الثقافي إعلاميا والذي ينتجه الواقع  اليومي المعاش في حياتنا العادية، بل تعود في امتدادها الواسع إلى المراجع التي تمثل تاريخنا ماضيا، وحاضرا، وبصيغة أكثر بساطة، قد توجز الرفض لمواقف كثيرة في الشأن الخاص والعام.
ولابد من إعلان التمرد على بعض علاماتها في أحايين كثيرة أيضا، ومع ذلك ظلت تلك العلامات تحمل صورتنا العربية في التقدم نحو الأمام، وتعكس مقاراباتنا في الدخول إليها، وإلى التاريخ معا من خلال قراءات متأنية وموضوعية ذات دلالات نحكم فيها على الحادثة الولود، أيا كانت لغتها تحمل سمات معتادة وبأهمية جمالية، تنبع من كونها حالة معرفية خاصة والإطلاع على المصدر الذي أوكل فيه مؤرخ الحادثة أو مكتشف جوهرها وأثرها في الأذهان حتى داخل ثوبها الفني المتخيل شعرا وحكاية.
وإذا كان لكل فعل ثقافي دور معين في طرح الأفكار المطابقة لمقتضى الحال شريطة أن يواجه صاحبه حقول الألغام الكثيرة من أجل موقفه المعرفي بإرادة حرة لإحداث عملية التغيير المطلوبة في المجتمع الذي ينتمي إليه وقد يزداد عذابا في تصوير مشكلاته ولكنه الوجع المحبب إلى المبدع الخلاق الذي يبتكر نصوصه، ويختار لكل فكرة مفتاحا هو الكلمة الأولى التي تؤدي وظيفة ما.
وثمة حالات قهرية مشتركة بين الأمم استدعت تلاقحا ثقافيا بمواقف أكثر إنسانية بين ذوي المواهب وهم ينقلون للآخرين الصورة التي وصلت إليها العلاقات الأدبية في نهاية المطاف.
لقد طرحت الثقافة العربية عبر تاريخها الطويل علاقات فنية تأثرت بها النماذج الفنية الأخرى شعرا ونثرا أو حكاية ونقدا حتى شمل ذلك كل الأجناس الأدبية ووصل فيما بعد إلى الفلسفة بقضاياها المجردة التي قد لا تدخل في نطاق الأحكام الجمالية التي تكون بابا لأسلوب الزخرفة بالمحسنات البديعية والبيانية التي يحتاج إليها الشعر وكذلك الشحنات النفسية المرافقة لأحداث القصة كما في (ألف ليلة وليلة) كموروث ثقافي متخيل جندته اللغة بانطباعات هادئة ومتزنة حينا وتخفي وراءها ابتسامة ودمعة.
في تطور مفهوم الموت وتراكم الأحداث المروية باعتماد فني مؤثر في المتلقين حينا آخر.
لقد انفجرت المعارف المتحركة ووجدت معها حكاية ألف ليلة وليلة على صعيد حركة القص المتخيل تأثيرا كونيا شد إليها كل المهتمين بهذا العمل الفني الشرقي الأصيل حتى أن قصيدة \الهاربة\ للشاعر الهندي \طاغور\ قد وقف على بعض أحداثها من خلال سفر خيالي في قصيدته التي حقق فيها تواصلا شعبيا مع أبناء مجتمعه وانحدرت من خلال ذلك ثقافة الأعاجيب التي ولدتها حكاية ألف ليلة في تنوع خزانها التراثي، وغناها الباطني المحير، وتراكم النموذج التعبيري المساند لهيبة القصيدة المتماسكة بنائيا، وقد تمرس معها الشاعر بالبحث عن الحياة بظروفها المختلفة ليكون اتكاءه على المعارف التراثية المشابهة أمرا صحيحا ومقبولا.
لقد بدت \هيملايا\ في قصيدة طاغور الهاربة عالما كبيرا من الارتقاء والسمو عبر تضحيات الهنود وكانت كتابه المفتوح على الحكاية العربية وما أنجبته البطولات الشخصية التي قادت تلك الأحداث في تقارب فكري متخيل يرمي إلى صناعة المعجزات في المجتمعات الغارقة في الصراعات الطبقية وهي تبحث عن عالم آخر يكون فيه البلاط خاليا من سلطة قهرية ذات مضمون فردي لتسود العدالة وينتصر الإنسان في كل مكان.
مع هذا الظهور الرومانسي في انتمائه الاجتماعي بولادة شرعية للمقاربات بين الأفكار على صعيد التأثير المباشر يمكن أن نقول: إن \طاغور\ قد امتلك بستانا هنديا بعض أشجاره من الكروم العربية والتي استراح تحت ظلال تلك الأشجار مهندسو حكاية عربية موقظة للعواطف المشتركة التي ينحاز أصحابها للوهج المتبادل بين لغتين متباعدتين ولكنهما متقاربتان في الإبداع، وفيه تكون العلاقة موقفا فكريا من الموت والحياة وكل القضايا الأخرى التي يلامس فيها المبدعون وجدان أبناء شعوبهم رغم المسافات الفاصلة بين الحدود.