ثقافة

فــــــــي دمشـــــــــق…

أحمد علي هلال

يستأذنك ياسمين دروبها العتيقة بأن يغفو بين أصابعك كمديح مبكر، غفوة عشق تنثر مفرداتها على المارين العطر والشغف والحنين، لأمكنة لن يبرحوها، فهي مثلهم تنتظر لتعطي قلبها لعاشقيها في صباح الأغاني الطالعة من جنوب القلوب، إلى سدرة منتهى الدرب، دمشق حرائق الندى وضوع بيلسان الدروب، كم من الوجوه مرت ونسيت صوتها، ليعود صوتها إليها في رابعة حلم، الفرق أنه لا ينتظر الحالمين به، هو كذلك من يشاطرهم الحلم، والسير حافٍ على بلور ناحل الدهشة، ليخيط للحزن ألف ثوب شفيف.
في دمشق، تبتدئ الحكايات كما دروب تبتدئ لتدل المشاة إلى قلوبهم، هنا دمعة تلتحف غصن ليمونة، هنا بسمة تشرق في أكثر من مواعيدها، هنا تتلاصق البيوت في أكثر الأحياء حميمية، إذ الصوت على الصوت، شغف مقيم يلون المساءات الراعفة، المترعة بميراث الحكايات الدمشقية-السورية، ولعل رواتها لا يقفون على مسافة من خفق ذاكرتها، إنهم نسيجها، وتشكيل حواسها، لتنفتح الدروب على الدروب، ويضحك أطفال القلوب ذات نهار آخر، ولضحكاتهم ما يشي بذرا النشيد لحظة موسقته، وتشابك أصابع فتنته لترسم صورة/ذاكرة لمن ظلوا ولن يبرحوا أرض الذاكرة، أرض الحكاية الأولى، هنا شهقة الموت والميلاد، فهما على خط الحكاية وخيطها، الذي يغزل للنسيج إيقاعه الفريد.
في دمشق، من كثافة دهشتها تكاد اللغات أن تصير نهراً خالداً، يعبر ضفافه مرتين فيما تهمي سنبلة إليه أن انتظرني حين أعود، في صورة شهيد، أعود إلى خصيب الأرض، وتهمس عصافير الحقول، إنّا سدنة أرواحهم لتجول في الفضاءات الطليقة، من تتدثر بسماوات الحقيقة، من تنظر من علٍ على وجه الأرض كيف يبتسم كلما مرت خطا الشهداء.
في دمشق، لا يتعب المغنون، ولا ترتعش أصابعهم، لأنهم الغناء المستمر، طلقة القصيدة ورمحها الذاهب إلى البعيد حيث يصل من يصل، ولا تنام المدينة رغم قلق طيورها حين تنقر الرؤوس، رغم كوابيس عاجلة تقضّ مضاجع الصغار، لكنهم في دروبهم إلى المدارس من يعرفون أين يذهب الدرب، وعلى أكتافهم تنام الحقائب مكتنزة الأحلام، والأقلام مثلومة بما يكفي لأن تخط على اللوح العتيق، أول جملة في العشق، وأول نبضة قلب في حضرة الدرس، ينفرون خفافاً على دروب عارية مفتوحة الصدور، لمن شبه لهم أن بضع خربشات عليها قد تغير امتدادها في القلب، كذلك تشهق بيوت لم تبرح أمكنتها، عشية كل حزن جليل، عشية كل فرح مقيم، لا حدّ لهما في انتصاب النهار مرايا للذاهبين إليهم، وهم يركلون بقايا العتم المستبيح فضاءاتهم.
في دمشق، يعثر الكلام على ما يستطيعه ليسفر عن غناء طويل شجي له ذاك القوام الجميل، لتعلقه نجمة الليل مستحيل، والكلام بشر في دروبهم الأخرى، تخفق كل أوقاتهم بنبض الجمال إذ يستريح مديحه، في اكتمال حواسهم، لينشدوا الحياة التي لا تمر على عجل وما سواها يمر على عجل الدروب الواجفة.
في دمشق إذن تلتفت إلينا الحياة، وفي التفاتتها تلتفت القلوب لمعراج بهجتها، لتلثم ما تبقى من سكر وقتها، ما استبقاه اليمام في دورانه حينما يلوب على الظل المضيء ويسكنه.
في دمشق، لا يتعجل التاريخ سرد الحكاية، فهو على مسافة منها، يتأمل ويكتب في سره العلني: هنا تولد الحياة ويذهب الموت إلى موته الكحلي، ويذهب أبناء الحياة إلى حيث ينابيع رؤيتهم ومثوى أحلامهم الطرية.
طازج جرح الحكاية، لكنه المُلهم لأجمل ما لم يقل بعد، وما لم ترتفع به الصحائف وتجفّ أقلام مازالت تتهجى في وهدة الحلم أنينها الناحل البكاء، وصورتها الأخيرة في المرايا، للجرح أن يروى غير مرة، وفي رويه المتعدد الاحتمال، لا شيء يوقف دمعته الضاحكة وهي تنزل أرض الحكاية فتورق فيها حيوات جديدة تبدأ رحلتها من أول السطر/العمر، ويقولون ما تبقى لنا إذا ما ذوّبنا المكان، وتداول الزمان ذهب حكايتنا، غير أغنية، تماماً كبُشرى الصحو في خاتمة الاحتدام، ويقول أبناء الحياة من لم تثقفه دمشق بعشقها، فلا يجرب غيرها.
في دمشق زنبقتان تحرسان ظلك، فلا تذهب بعيداً إذ لا يشيخ الحلم، ذات رغيف، قول جمهرة عشاقها-دمشق.