ثقافة

سأصلي أيضا..

تمام علي بركات
بذهن مشتت بين القنوات التلفزيونية، وما تبثه من أخبار تحيض أنباء عاجلة عن سورية “من الداخل والخارج” وعبثية اليوميات التي أحياها كإنسان يؤلمه الموت وصوره الصاخبة التي تفوح منها رائحة الهذيان والوجع، وتحني ظهره أيام أيلول بثقل حنينها وورقها الأصفر المتساقط في أغنية السيدة فيروز فقط، أحاول أن استرجع أهم المحطات والمواقف التي كان لها شديد الأثر في تشكل الوعي “بغض النظر عن طبيعة هذا الوعي، بمعنى هل هو معتدل الإدراك، أم معتدل المعرفة”، أم متطرفهما؟.
وعي يحملني الآن في هذه الظروف الشديدة الكدر التي نمر بها كسوريين عموما لأجري محاكماتي المنطقية “هذا إن بقي للمنطق ولو صوتا خافتا يئن به” لكل ما يدور حولي وداخلي من أحداث لها وطأتها الثقيلة على ناشئة أي وجدان وضمير “كما يفترض” أقله بالنسبة للذين لا يرون في الخراب إلا خرابا، ولا يمثل لهم الدم النازف من أي جسد أدمي، إلا دما حراما، دم مسفوح عبثا على عتبات وطن بسيط، يكفيه قليل من الماء وضوء الشمس، لينمو في أرواحنا بكامل الصحة والعافية، شوارع نظيفة من القمامة والسلاح، بيوت يتكفل الياسمين بطلاء شرفاتها الفقيرة، وتطهير صدور ساكنيها ببياض اللون والسريرة، “بقجة” أحلام خفيفة الترف نحملها كسيزيفيين من لحم ودم وألفة، بداخلها ظل حبيبة مشتهاة، شبهة عمل إنساني يحفظ الكرامة، وشرطي سماوي يغض النظر عن أخطاء بشرية لا تؤذي أحداً، كقبلة مسروقة من وجنة امرأة على الكورنيش الجنوبي في اللاذقية، أو نخب طفل يرفعه أحباء مهللون لقدوم الحياة الباكية مع طيران الوسادة.
أعود مرة أخرى بعد أن شابت لحيتي، إلى تلك الأزمنة الفتية التي تأكسدت فيها الأفكار الثورية بهرموناتنا المندفعة، قصائد مالئ الدنيا وشاغل الناس، وصايا أبو النواس المنعشة، المعري ورسالته المدهشة، كلمات كارل ماركس التي دوخت الرأس طويلا عن العدالة الاجتماعية وحق الجميع بظروف حياة أفضل، كاريزما غيفارا وصوره المعلقة فوق حيطان العقل والغرف الصغيرة المستأجرة لأسباب مضحكة “الآن أجدها مضحكة” وقفة لينين المتغطرسة وشموخه الحجري، روايات ماركيز ودستويفسكي، إسماعيل كادريه وطبول مطره أشعار محمد الماغوط عندما أعلن انه سيخون وطنه، أدونيس وأنسي الحاج ومحمود درويش، ايف بونفوا وسان جون بيرس، والت ويتمان واكتافيو باث، مجلة الكرمل والآداب، الناقد والبديل والمدى، مقالات الطيب تيزيني ودراسات أدوارد سعيد، أغاني الشيخ إمام ودورا بندلي وعزيزة داي “مغنية إيرانية”، النقاشات المحمومة التي كانت تجمعنا “يساريين، قوميين سوريين، لا منتمين ولا متحزبين” .
أتساءل اليوم وأنا أرى أمريكا التي كرهنا تعنتها وقذارتها جميعا حتى المتطرفين الإسلاميين كما كانوا يعلنون قبل أن ندرك أنهم صبيانها العتاة، وهي تلوح لنا بشعلة حريتها بعد أن جلست حاملتها الفتية بثوبها الإسمنتي البارد، على رأس التوما هوك والكروز تئن من فرط اللذة، من منا نحن البسطاء والمسحوقين لم يكن ثوريا، من منا لم يحلم بأنه سيغير العالم برمته، بقصيدة ثورية لم يُكتب قبلها ولن يُكتب بعدها، أو برواية ستضع رواية  جورج أوريل “1984”على رفوف النسيان؟ من منا لم تنل خيبات الحياة بمرورها الصاخب من معظم أحلامه وأمانيه؟.
هل كنا جبناء؟ فسكتنا عن الفساد والظلم الاجتماعي ونوم ضمائر من كانوا حراسا للبوابات البارحة واليوم يعلنون العداء لبلدهم؟ يجوز ولكن هل حقا ما نراه اليوم يحدث فوق أرض سورية هو ما كنا نريده أو نتمناه؟ صدقا ولا بأسوأ أفكاري أو ألعن كوابيسي، في لحظات غضبي من فراغ جيوبي المتهرئة، لم يخطر ببالي أنا وكثر من الشباب الذين اعرف عذاباتهم وضيق حالهم، أن نحمل سلاحا لنصوبه إلى خاصرة جندي يؤدي خدمته الإلزامية، يتكئ بأطراف خياله على ذكريات بعيدة، وهو يحلم بإجازة ولو ليوم واحد، لم اتجرأ على التفكير يوما بأن تلك القرية أو تلك المدينة أهلوها أعدائي، لأسباب طائفية قذرة ومقيتة، لا تشبهنا ولا نشبهها، ولم نكن نعرفها حتى ولو مرت أمامنا، ولوحت لنا بصدرها العامر بالحقد.
هكذا وبكل بساطة يأتي أصحاب العمائم السوداء والدعوات الطالعة من اليأس والتخلف والحقد، ليسرقوا أحلامنا بحياة نظيفة وثورة بيضاء، قادمين على خوازيق عثمانية ميكانيكية، تم تشحيمها في الصحراء العاقر التي أنجبت أولياء لوطيين وزناة، ملوحين بعصا أصحاب اللكنة المضطربة وهم يرطنون بجملة لا يحفظون غيرها”fake you”  ليخبرونا بلحاهم المعفرة بالكذب “هويتهم الكونية المودرن” بأنهم سيهزمون بساطة أحلامنا، بأنهم سيذبحون الوطن الذي صبرنا على نسيانه لمحبتنا كي لا نجرح كرامة جباله وضحكة أطفاله وزرقة ينابيعه، جاؤوا يبشروننا بشريعة الذئاب والضباع كدستور جديد ينظم أوقاتنا ورغباتنا، البند الأول فيه ينص على: افترس أنت وأخوك ابن عمك، وأنت وابن عمك اغتصبوا ابنة الجيران.
اليوم والعالم يرفع حناجره ليصلي من اجل سورية وسلامتها وتعافيها من جراحها، لا يسعني إلا أن انظر لتلك الأوداج المتورمة والكلمات الممغنطة، متسائلا: هل هذا ما قدرتم عليه يا سكان العتبة الأرضية لبلد أسكنكم يوما فسيح قلبه؟ سأصلي معكم أيضا ولكن على طريقتي: أقرأ باسم الجندي الذي خلقَ.. من نعل حذائه العسكري أفقا.
شكرا لصلواتكم ولأحلافكم المبهمة، رصاص البندقية السورية وهي تقتص من زارعي الموت والدمار، وحده من يجعلني أؤمن بأن الله “كائنا من يكون” سيستجيب للأزيز والنار.