ثقافة

في حوار لم ينشر مع الفنان تيسير السعدي: الشخصيات التي قدمها جيلنا باقية في وجدان الناس حتى أصبحنا في ذاكرة البعض جزءاً من التراث..

فنان من الزمن الجميل عشق الفن صغيراً من خلال عروض خيال الظل والدمى المتحركة، رافق إذاعة دمشق منذ بداياتها وقدّم الكثير ممهداً الطريق مع الرواد الأوائل لنهضة مسرحية وإذاعية ودرامية نقرأ تفاصيلها عبر استحضارنا التاريخ الفني والإنساني للفنان تيسير السعدي الذي رحل عن دنيانا أول من أمس في حوار معه لم ينشر، وهو ابن دمشق التي باركت ولادته عام 1917 وقد درس المرحلة الابتدائية في الكتَاب، وهناك تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وكانت أياماً صعبة، وبعد الابتدائية ذهب إلى مدرسة اللاييك وكان من حسن حظه كما يقول وجود مسرح فيها، وعندما جاءت إحدى الفرق من فرنسا شارك معهم في دور كومبارس، ومثّل مع الفنان جان أولفييه بدور ولد. من هنا وُلد عشقه للمسرح وتعلق به، وفي العام 1945 سافر إلى مصر للدراسة في المعهد العربي في القاهرة لمدة أربع سنوات، وبسبب عدم توفر المال الكافي لديه  اضطر للعمل كـ “كومبارس” لسد احتياجاته، وبعد عودته إلى سورية شكّل مع مجموعة من الفنانين منهم “حكمت محسن، أنور البابا، رفيق شكري” الفرقة السورية للتمثيل والموسيقا، قدموا من خلالها عروضاً كوميدية، وبعدها بدأ السعدي العمل بمسلسل “أم كامل” حيث كان المؤلف يقدم له النص وكان هو يقوم بإعداد السيناريو، وذلك بتخيل الشخصيات وكتابتها، وكان عنصر التشويق هو الطابع الأساسي للنص كما يؤكد.

حلمنا بشخصيات عالمية
وعن المسرحيات التي شاهدها يتابع السعدي: رأيت الكثير من المسرحيات في شبابي، ففي سورية كانت الفرق العربية تقدم في الصالات سينما صامتة، ومنها الفرقة المصرية، كذلك كان جورج أبيض يقدم التراجيديات اليونانية، وعبد الحميد وفاطمة رشدي قدموا المسرح الرومنسي، إلى أن جاء نجيب الريحاني بعد ذلك بفترة، ثم شكل مجموعة من الشباب وهم  عبد الوهاب السعود وتوفيق العطري ولطفي المالح ومصطفى هلال، نادي الكشّاف الرياضي، ثم شكل هؤلاء فرقة، وكنا أنا وأنور البابا أصغر منهم فشكلنا فرقة وطرحوا علينا فكرة الانضمام إليهم، وكان ذلك في بيت عربي في ساروجة اسمه “نادي الفنون الجميلة”، كنا نحضر للبروفات عدة أشهر وفي كل خميس كنا نقدم فصولاً من المسرح العالمي.
ويضيف السعدي: الآن لا يوجد مسرحاً، فأغلب الجيل الحالي لم ير المسرح المحترف الذي ضم العمالقة، كالمسرح الفرنسي ومسرح الأوبرا والفرقة المصرية، في حينها كان يتم الحجز للمسرحية قبل شهر، وعندما يبدأ العرض لا يمكن لأحد أن يدخل صالة العرض. كان هناك نهضة مسرحية حقيقية، وعندما كنا نقف على المسرح كنا نحلم بتقديم أدوار كبيرة كهاملت والملك لير، وأنا أعتبر أنني وصلت لنصف الطريق إذ قدمت دور “قيس” إضافة لأدوار كثيرة وكنت أهوى الكوميديا البعيدة عن الإسفاف، فهناك كوميديون يقلدون فنانين أجانب لكن “أبو فهمي” على سبيل المثال لا يوجد مثله إلا في سورية، ففي سوق مدحت باشا، عاشت تلك الشخصيات في ضمير الناس وظلت حتى الآن.
ويعتبر السعدي أن المسرح الموجود الآن هو مسرح هواة، لأننا –والحديث للفنان السعدي- وللأسف لم نرب جمهوراً مسرحياً يعتمد المسرح طقساً فيخرج من بيته قاصداً المسرح ليحجز بطاقاته، بعكس الجمهور الذي توجهنا إليه في بداياتنا، والآن البطاقات توزع مجاناً في بعض الأحيان ولاأحد يأتي، إضافة لأسباب أخرى منها المادية لأن المسرح مكلف، وليس هناك مردود، والمؤلفون قلائل لذلك هجره الفنانون.

التوقف في قمة العطاء
عمل السعدي  في الإذاعة منذ تأسيسها، وكان رئيساً لدائرة المنوعات لفترة من الزمن، وأهم الأعمال التي قدمها في الإذاعة كانت “صابر وصبرية” الذي قدمه مع زوجته صبا المحمودي بما يزيد عن 1200 حلقة، وحقق هذا العمل جماهيرية واسعة، إضافة للعديد من التمثيليات الأخرى، وعن سبب توقفه عن العمل في الإذاعة قال: توقفت عن العمل في الإذاعة لأنه لم يبق شيء لأقوله، ومن الجيد أنني توقفت في تلك المرحلة، فعندما يتوقف الفنان وهو في قمة عطائه سيبقى في ذاكرة الناس، وأنا بقيت في ضمير الناس الذين أحبوني ورأوا بي الإنسان الناجح والمحبوب وخفيف الظل.

خفت أن تتراجع جماهيريتي
أما علاقة السعدي بالتلفزيون فقد بدأت في وقت متأخر وعن تلك الفترة قال: كنت قريباً من سن التقاعد عندما بدأ البث التلفزيوني، وكان د. صباح قباني وهو من أعز أصدقائي مديراً عاماً له، وقد دعاني للمجئ إلى التلفزيون وكنا في ذلك الحين في أبو رمانة في الجمعية السورية للفنون نقدم حفلات أسبوعية، وكان الفنان دريد لحام يزورنا حينها وكان مايزال طالباً، فقد أراد د. قباني في تلك الفترة أن يؤلف ثلاثياً يتألف “مني ومن دريد ونهاد” لكنني لم أشارك لأنني خلال عملي في الإذاعة، وعندما كنت أخرج بعد التسجيل كنت أسمع صوتي في كل مكان في المطاعم والسيارات والبائعين، لذلك خفت أن تتراجع شعبيتي لدى الناس، وقبل عملي في الإذاعة عملت كثيراً في المسرح، وبالمقابل هناك فنانون بدأوا مسيرتهم من خلال التلفزيون كدريد لحام وناجي جبر، وفي أحد الأيام وبينما كنت جالساً في الإذاعة جاءني الساعي وقال لي: تمت إحالتك إلى التقاعد، حينها اضطررت لعمل أول مسلسل تلفزيوني، لأنه لم تعد لدي وظيفة، ولم أرد الاتكاء على عمل زوجتي التي كانت حينها تعمل في شركة أدوية، وهي من ساهمت في تأسيس مكاتب رعاية الطفولة والأمومة في سورية، لذا شاركت في مسلسلات عدة منها “صح النوم” ومسرحية “غربة” مع دريد لحام وفي “الدنيا مضحك مبكي” و”زواج على الطريقة المحلية” و”تجارب عائلية” وآخر الأعمال كان  مسلسل “أيام شامية” عام 1992 وقد جاءتني بعده أدواراً كثيرة لكنني لم أحبها، لأنها كانت بسيطة ولم يعجبني الحوار فيها، لأن صياغة الحوار أمر أساسي، فمثلاً عندما قدمت “الحكواتي” الذي حقق نجاحاً كبيراً، لم يعجبني الكلام الذي يقوله الحكواتي، فطلبت من الأديب حسيب كيالي –رحمه الله-  أن يعيد صياغته لي، ففعل ذلك ومن هنا نجح الحكواتي وأصبح مؤثراً في الناس.

أخطاء كثيرة في أعمال البيئة
ويعتبر السعدي أن موضة باب الحارة عادت لتقدم التراث، وهنا أضاف: كنت أتمنى لو أخذوني إلى مواقع التصوير واستشاروني، فعندما عملت في “أيام شامية” تأليف أكرم شريم وكان سيخرجه علاء الدين كوكش واشترته دبي، وكان سيعرض خلال ثلاثين حلقة، لكن حدثت بعض المشاكل حيث لم يكن المؤلف راضياً عن توزيع الأدوار لهذا توقف تصوير العمل، ولا أعلم كيف وصل إلى التلفزيون السوري الذي أعطاه للمخرج بسام الملا وتم اختصاره إلى 14 حلقة، وهذا أعطاه جمالية أكثر، والأصالة التي حملها هذا العمل أتت من أنه أَخذ من أفواه الناس وقد طلب مني المخرج كوكش أن أرافق الكاتب إلى الحارات الدمشقية لمقابلة الناس وأخذ الحكايات عن ألسنتهم، إضافة إلى التفاصيل الصغيرة التي اعتمد عليها العمل، والتي  أضافت له الكثير من الجمالية على الرغم من بساطتها، من هنا نجح العمل نجاحاً منقطع النظير -فأكثر من مليون نسخة كانت لدى المغتربين في أميركا- وهذا ما دفع المخرجين فيما بعد لتقديم البيئة الشامية، لكن الأعمال الجديدة فيها الكثير من الأخطاء منها “العملة والشخصيات في الحارة” أنا عشت في تلك الفترة وكان هناك أطباء وموظفين، لكن هذه الأعمال قدمت الجميع بالملابس ذاتها، والكل يضع خنجره -عادة وضع الخنجر موجودة في مناطق أخرى- ونحن ليس لدينا هذه الثقافة، نحن نتحدث عن أناس محترمين لديهم أخلاق عالية منها إغاثة الملهوف، وهذا لا يتناسب مع ما شاهدناه أبداً، وفي تلك الأعمال لم نشاهد مطراً أو ثلجاً مع أنه في تلك الفترة كان المطر يهطل غزيراً، وكانت المنازل تطوف وكانت الطريق من المرجة إلى باب توما تُغمر بالمياه، كذلك كان الناس يعيدون تطيين السقوف وتصليح المزاريب، وكان الحطّاب يأتي على الجِمال ويشتري الناس منه الخشب.
وعن مدى رضاه عن مسيرته قال السعدي: عندما ذهبت إلى أمريكا ووجدت من ينتظرونني من الجالية هناك شعرت بالرضا، ولم أكن كذلك سابقاً، وعندما كرموني في أدونيا ذُهلت فأكثر من ألف شخص بينهم مثقفين ونجوماً وقفوا تحية لي، هذا دليل على محبتهم لي، رغم أنه كان قد مر نحو 20 – 30 عاماً لم أعمل ومع هذا كانوا يتذكرونني. وتتملكني سعادة غامرة عندما أرى محبة الناس، فقد أصبحت بالنسبة لبعضهم من التراث، ومن يتذكر أهله وحارته يتذكرني.

جيل يبشر بالأمل
وعن واقع الدراما السورية يعتبر السعدي أنه ومنذ حوالي عشر سنوات أصبحت الدراما السورية كلمة متداولة وأصبح الجميع يتحدثون عنها، وهناك مواهب شابة ستبدع إذا أتيحت لها الظروف، وخصوصاً بين الفنانات فهناك إحساس وعفوية في الأداء، وقد أعجبتني أمل عرفة فهي أفضل من قدم كوميديا كذلك مصطفى الخاني الذي يعرف إمكاناته ويستثمرها جيداً، وأضاف السعدي: عملت فترة طويلة كمراقب نصوص ويكفي أن أقرأ أو أسمع الجملة الأولى من الحوار لأحكم على العمل، المشكلة الآن أن المسلسل يُعرض ويتخلله الكثير من الإعلانات التي تقطع متعة المشاهدة، إضافة إلى أن المقاطع التي يتم اختيارها للدعاية للمسلسلات تكون غالباً صاخبة، بدل أن يتم اختيار المشاهد المشوقة.
وعن نصائحه للجيل الجديد من الفنانين قال: أنا لا أملك الحق بتقديم النصيحة للفنانين الجدد، لكن أتمنى ألا ينجروا وراء المادة – سابقاً كانوا يقولون الأجر قليل لكن حسب ما أسمعه عن الأجور هناك فنانين أخذوا عن دور واحد أكثر مما أخذته في كل حياتي- سابقاً كنا نعمل كثيراً بسبب قلة الأجر لكن فناني اليوم ليسوا مضطرين لذلك، لذا أتمنى أن يختاروا الدور الجميل الذي يحقق الفائدة والمتعة معاً، وأرى أنه يجب أن يكون هناك تكامل بين المخرج والكاتب والفنان وكامل طاقم العمل، لأن العمل الدرامي عمل جماعي، ولن ينجح بجهد شخص واحد، وهناك مؤشرات جيدة، فالجيل الجديد لديه إمكانات لإقامة مسرح وسينما راقيين.

بطاقة تعريف
– الفنان تيسير السعدي مواليد دمشق 1917. أحد رواد الإذاعة.
– عمل كمراقب نصوص في الإذاعة كما عمل كرئيس دائرة النصوص، ثم مخرجاً.
– أسس الفرقة السورية مع مجموعة من الفنانين  .
– يعود له الفضل في إعادة خلق و تقديم مسرح كراكوز و عيواظ.
من أعماله :
في الإذاعة: شارك بأكثر من ثلاثة آلاف تمثيلية إذاعية.
في السينما:
– مثل فيلم “الهانم” مع الفنانة فاتن حمامة إضافة لفلمين آخرين
– شارك بأكثر من عشرين مسرحية.
– من أعماله التلفزيونية: زواج على الطريقة المحلية الدنيا مضحك مبكي تجارب عائلية وآخرها كان مسلسل أيام شامية .
جلال نديم صالح