ثقافة

اختراع المخيلة !

هل تطرح علاقة السينما بالمتخيل أسئلة جديدة، وهي بذاتها تلك الأسئلة القديمة، وكيف تكون العلاقة مع الحكايات في السينما، هل هي محض اختراع لتبث خيالها عبر الصورة الآسرة الساحرة إذا كان الناس يعيشون في عالمها المتخيل، لكن قلة ضئيلة تدرك ذلك؟ «فريدريكو فلليني» أسطورة السينما الإيطالية والذي خلف وراءه ثلاثة وعشرون فيلماً تستحق الوقوف عليها نظراً لما تمثله من سلطة الخيال في مقابل الواقع الذي يكاد يتمثله الخيال ويمتصه تماماً، الأمر الذي حمل –فلليني- على القول: «أنا كاذب لكنني صادق» ذلك الذي كانت حياته تدور حول فكرة أن لا وجود للواقع إلا في دائرة الأحلام، فضلاً عن أنّ كل الناس يعيشون في عالمها المتخيل، لكن قلة ضئيلة تدرك ذلك الفارق وبوصفه رسام الأحلام والذنوب والذي عاش في عالم من الخيال والفنتازيا، كان الأكثر وضوحاً عندما كان ثمة شيء يبكي في أعماقه، وثمة شيء يضحك. ومع ذلك لا يجد –فلليني- مناصاً من القول: يتهمني الكثيرون بأنني لا أحكي الحكاية عينها، بالطريقة عينها دائماً، بيد أن هذا لا يحدث لأنني منذ البداية أخترع كل الحكاية، لذا أشعر بالضجر وبأنني ضعيف مع الآخرين إذا ما عمدت إلى تكرار نفسي!
ليقول في سياق آخر: أنا لست خطيباً مفوهاً ولا فيلسوفاً ولا منظراً، لست سوى حكواتي، والسينما هي مهنتي، لقد اخترعت لنفسي كل شيء طفولتها شخصيتها اشتياقها للماضي، أحلامها ذكرياتها كل هذا اخترعته لكي أتمكن من روايته، أحب أن تكون ثمة حركة من حولي ولا شك أن هذا السبب الرئيس الذي يدفعني إلى صنع الأفلام، السينما بالنسبة لي ذريعة لوضع الأمور في حركتها.
اللافت في هذا السياق أن ساحر السينما الإيطالية لا يذهب إلى السينما إطلاقاً وإذا ما ذهب إليها يدخل الصالة ليشاهد لمحة من الفيلم ثم يولي الأدبار!.
ما يضعنا فيه «فريدريكو فلليني» هو المفارقة الكبرى في استنبات خيال السينما ليغدو واقعاً بعينه ،وهذا بحد ذاته، يطرح على السينما وبواسطتها سؤال الحكاية المخترعة، وسؤال الخيال العابر للحكاية ومنه كانت حكايات السينما كلها على الأرجح أسيرة خيال-واقع كدنا نتمثله ونعيش لحظاته، كأن شيئاً خارج السينما يبدو عادياً، خارج طقوسها المعلنة لا يستلفتنا شيء البتة.
في أمثولته إذاً يذهب -فلليني- ليطرح أسئلة شاقة على السينما وتعبير صورها الجاذبة وكيف تؤسس خيالها البصري الذي ما ينفك متناغماً مع متخيلنا بالذات وهو يصل ما انقطع منه ويؤلف ما بين كل جزئياته المحتملة، لذلك لن نكون في السينما وذاكرتها الشهية وحيدين، سنكون أسرى ذلك الامتلاء الذي يعوض الخواء والفراغ بل يكسره ليهب كل أكوانه «المُتْعَوية» بعيداً عن أن السينما ما زالت هي صاحبة الحضور –الغياب.
ولعل في استدعاء زمنها الآن استدعاء لثقافة مازالت جديرة بالانتباه ومساءلة كبارها مبدعيها العابرين للغات والثقافات، ما الذي مثلته السينما لهم، لا سيما في ظل غيابها الآن، هل كانت متخيلهم الذي اخترعوه فحسب، أم أنه كان أشبه بالرواية المستحيلة، وفيها كتبوا بالصورة  نقصانهم الضروري، كتبوا ما لم يعيشوه أو تخيلوا أنهم لو عاشوه بعض الوقت، فليس الأمر مجرد امتداح للسينما وعمالقتها بصرف النظر عن هوياتهم، الأمر هنا سينطوي على مفارقة الخيال كيف اقتحمه «خيال» آخر ندعوه بالواقع حيناً، وأحياناً أخرى بالوقائع التي تتجمع كخيال سينمائي متروك على الأرصفة، ينتظر من يؤلف تفاصيله الكثيفة ليظفر بالمعنى ولتغدو السينما هنا أم الفنون بحق، مثل الشعر الذي ما انبرى بكل شحناته التعبيرية وأطيافه الجمالية «خياراته الأسلوبية» يلعب الأدوار في الأزمنة المختلفة كلها، ولعل واحدة من تلك الأسئلة، كيف يخترع سينمائيونا الشباب مخيلة أصيلة لا تعيد ترتيب الواقع، بقدر ما تبنى واقعاً نجدنا فيه حيث لا تنتهي الأحلام ليعيش الناس فعلاً في عالم متخيل بالضرورة لكنه الأقرب لواقع يدركه الجميع، لم يكن خليطاً من الخيال والفانتازيا بقدر ما كان كل أولئك أولا!.