الشاعر طلال الغوّار في صباحاته الشاغرة
من الملائم أن يكون استهلالنا بمقولة للأديب الأرجنتيني خورخي بورخيس إننا بحاجة إلى الخيال كي نواجه الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء، قاصدين من وراءه الطريقة التي تكمن فيها قيمة الشعر باعتباره يحيي اللامألوف، ومنحه الحياة لمن أصبح هامدا وتقليديا، وهو ما تضمنته نصوص المجموعة الشعرية الخامسة “احتفاء بصباحات شاغرة” للشاعر العراقي طلال الغوار الذي أخذ من الحياة طبيعة التركيب البنائي للنصوص مع ما يحمله العذاب والألم الذي يرافق صناعة النص فسخّر قلمه للإمكانيات التي يعكسها التنوع اللامتناهي للمفردة وهي تقترب أن تكون سيرة ذاتية لحياة وطن في صورة نصوص شعرية:
“في طفولتي/ كم كنت/احلم أن اصطاد النهر/ بشبكة/فيما اليوم/تأسرني/موجة هاربة”.
تضعنا تلك المفردات في ارث مخزون من لاوعي الشاعر وحماسة هائلة وهو يمسك بيده أدوات التعبير بخيالات أبناء القرى وذكرياتهم وحنينهم بلغة سلسة في صور ذات القطع السيناريوهاتي. كذلك اعتمدت بعض النصوص على اللقطات والتفاصيل المكثفة:
“حين احتضنت/ شظايا الانفجار/ ذلك الصبي/هرع إليه الناس/لكن لم يجدوه/قال احدهم
رأيت يد الشمس/تلملم أشلائه/ وأخذته إليها”.
ولكي يكون الشعر صنو الحياة يلجا الغوّار إلى ضباب رؤى طفولة في قرية هادئة على إطراف دجله:
“كلما جئت قريتي/اقتادتني خطاي/إلى طفل مازال ينتظرني/خلف شجرة/منذ خمسين عام
لكني لا أراه”.
ليبدو إن الإيحاء الأدائي في حيثيات النص يمنح المتلقي الفرصة لكي يكتشف حجم الألم في صورة الواقع المعاش، لأن الشاعر يرى الحياة بعاطفة شديدة وبعين مكبرة تلك الفظاعات التي يحملها مشهد الحياة في البلد الذي تحول إلى ساحة خراب ولا أفق لحياة تنمو من جديد
“حين أحكموا قبضتهم/على المدينة/ووزعوا الظلام/في كل مكان/اخذوا ينصبون الفخاخ لقصائدي/لأنها وحدها التي/ كانت تضيء/ ص 24
أو: النهر الذي استفاق على زمن آخر/كما في قصيدة النهر/
أو ما تتركه شظايا الحرب التي تتناسل:
“حينما انتهت الحرب/وعدت/لم يكن معي ما اصحبه/ سوى أحلام صديقي الجريحة”.
وبالرغم من أن الشعور بما يبعث الألم في إننا نعيش في أحلك واقسي الأزمنة وان كل شيء جميل في الوطن يتحول إلى حطام ولا تغيير نحو حياة كريمة بل أن روح الغربة قد تضخمت بين أبناء المجتمع الذي تعود على الألفة بينه والانسجام وهاهو الغوار يدعو إلى إن نرى الحياة:
“عليك أن ترى الحياة/في نبتة خضراء/لا نبحث عنها/في أعماق البحر/كما فعل البطل كلكامش”.
والغوّار يمنح لغته الشعرية ألقها وانبهارها حين تسرح أخيلته في فضاء شاسع ويجد ما يقوله عن التجارب الخصبة التي كانت موضع اهتمامه من البداية سيما وأن هذه المجموعة الشعرية الخامسة له والتي تضمنت التجربة في تنوعها الثري وأن خياله الخلاق في رصد الحياة شعريا وتشترك في صياغة الصورة وتفصح عن اهتمام كلي بالحياة اليومية مشفوعة بالإسرار والماضي والنهر والمرأة والظلمة والمطر والحنين للريف والطفولة فيثير فينا هذا القلق البنّاء:
“حينما أستلقي/على كتف الليل وحدي/ كم كنت أرى القمر جميلاً/ كم كنت أحبه/ويشعرني بالأمان/وهو يطارد خطوات اللصوص/ يا لتلك الأيام”.
إن قتامة الحياة وسيطرة روح التشاؤم على ما يحصل من خراب في البلاد ومن موت مجاني وتفكيك متعمد للأواصر الاجتماعية يدفع الشاعر إلى البحث عن الصور التي تعبر عن الهدف السامي الذي ينتصب أمام كل أديب وفنان حقيقي وهو يبتكر طرقا للحياة ويحمل تساؤلا إلى أين يسير العراق:
“الطريق الذي نبتكره/في الحياة/هربا من الموت/هو الذي/ سيوصلنا يوما إليه”.
*احتفاء بصباحات شاغرة ..للشاعر طلال الغوّار.. دار بعل .. دمشق 2014
قاسم محمد مجيد