ثقافة

سيرة النص وشعلة «الأولمب»…

للنص سيرة أخرى غير تلك السيرة التي ننشغل بها وننشغل على حوافها تعرية ووصفاً وتعليلاً يلوب على المعنى وتوسل مناوشته لنقف على حقيقته.
النص من يتنفسنا في رابعة حبره حينما يسيل على الأوراق كضوء كثيف لقمر الرؤيا البعيد، وحينما يأخذ شكله ومقامه على خطو ذات القلوب البصيرة في الكتابة والتأمل ونسج مرويات الحياة.
النص في هذه الأثناء من ينجز ذلك الصوت البعيد، يقرب مسافته لعين حارسة ولآذان تصغي لحواسه هو، كيف يتشكل في مرمى المعاني، وكيف يصبح أبعد من أثر يوقع به الكائن/ الإنسان بطاقة عبوره ليستعيد حياته من جديد.
وبتعبير الروائي باولو كويلو «كالنهر الذي يجري» إذن هو من يجري ويحفر في كل آونة ضفافه المشرعة لألق المخيلة وبراعة التأويل، إذ أن التأويل نص آخر جديد.
في النص تأتلف الهوية والذات والسيرة والتاريخ وخفقات الذاكرة، وسيولة اللغة «ورواغ المصابيح». النص نداء يكتبنا هو، ولعله يعيد لنا تلك الكينونة، يعيد لنا الكثير مما احتبس القول به واحتدمت به الحواس، وهنا أيضاً للنص ما يخصه ليصبح قصده هو قصدنا، ويصبح قوله قولنا، ليقول النص وهو ينفتح على مدياته ليصبح قوس معنى: إن الحياة في مكان آخر هلموا، ولكاتبه: لا تسرف اللوم خميرة أنا فحسب لرؤيتك حينما تعتمل بشعرية القلب وتتنزل على الشفاه شعرية لسان، حاله حال الولادة حينما يدنو الصباح.
هكذا في سيرته –كان النص- في المبتدأ مهماز الوعي الذي لن يصبح شقياً ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ونقول تعللاً سيصبح مرآتنا، وأكثر من ذلك وجهنا الآخر الذي يرصد ظلنا البعيد وتفاصيل جاء بها الغياب، جاءت إلى الشجن الكثيف لتعتقه، وتقطر منه الكلمات، فالكلمات إذن هي السيرة الأخرى سيتعرفنا بها لننجز حلماً عصياً على الشرح، فقط يدرك لسرائر عابرة في اللغة ومقيمة في الأثر.
ولعلّ النصوص جميعها في رحلاتها إلى تدوين الأثر، وإحراز علامته تروي إذ تشبع، وتشبع ولا تكتفي الدلالة لأن الدلالة ها هنا هي نسيج المؤولين في زحمة نصوص انتظرت كثيراً على بوابة ذياك الحلم، لتحمل وعدها بجمال لا يكتفِ وبامتداد لا يحد وبنمو يتسامى بدءاً من جذر الحكاية، والحكاية هنا سورية بامتياز حينما يكون ميلاد الشهيد ميلاد النصوص الأخرى، وحينما يكون ميلاد من افتدى ميلاد اللغة التي تجدد صحوها، ليكون اللغوي هو الجمالي، والجمالي هو الأثر الذي لا يُستنفد لتظل سيولة الكلام من تكتشف ذات فصول سنألفها لطبيعتنا الإنسانية الموازية –على الأرجح- للطبيعة الأخرى.
فالنص في ملحمة التاريخ وملحمة الكتابة، هو نص العبور، نص الإقامة، وسواه زائل، ليصبح بذاته الوجه والمرآة وما اقتطع من زمن الحكاية تفاصيل، ظلت غوايتها أن تصبح ذات كثافة، براءة قول جديد.
فإذا كان للشعر حصته من الرؤيا وللرواية حصتها كذلك، فإن اللغة/ المعمار هي من تؤسس للمخيلة لئن تشف أكثر ولا تسقط في غوايتها المستحيلة، ولا يفتنها الأثر السراب، لأنها من تنسج هشاشة العشب وصلابة الجذر، لأنها أديم الحكاية فكلما صعّد الراوي نشيجه في حلكة المعنى، ليظل كشعلة «الأولمب» من تحمله الجهات على أصابعها وتعدو به غير أرض، وغير مكان ليستقر ولا يستقر، لكنه في الحالتين يظل وعداً بأنّ ما سيأتي هو الأجمل، ليس جرياً على عادة النص، أن النص الجميل لم يكتب بعد، هو يكتب باستمرار لكنه المشروط أبداً بحداثة الأمل المتجدد، ليمضي في عبوره إلى نص يتعين بجدوى ذات حياة.
أحمد علي هلال