اللغة العربية.. والإيمان بعودتها لغة للعلم والحضارة
“هل يتكلم العلم بالعربية مرة أخرى” سؤال مشروع، جعلت منه الندوة التي أقامها فرع مجمع الفتح الإسلامي لمعهد الشام العالي، عنواناً لها بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، والتي أقيمت في مقر المجمع، والدافع بالطبع هو الحال المؤسف الذي بلغته لغتنا العربية بعد أن كانت لعدة قرون لغة العلوم، حين كان العلماء العرب الرواد الذين علموا العالم الغربي الحضارة والإنسانية، وباتوا اليوم مجرد مستهلكين على كافة الصعد، وسقطت أهمية هذه اللغة من قواميس أغلبهم كما سقط سواها، وسورية هي البلد الوحيد ربما الذي بقي مخلصاً ومؤمناً بأهمية اللغة العربية ودورها وإمكانية عودة المجد لها ولأبنائها، جوانب عديدة تحدث فيها علماء اللغة والشريعة خلال الندوة، وفي مشاركته حرص وزير التعليم العالي د. محمد عامر المارديني على استخدام الأسلوب الساخر الذي يحمل في طياته الكثير من الألم ليعبر عن الواقع العربي المخترق على كافة الصعد ثقافياً واقتصادياً وسياسياً وحتى اجتماعياً بشكل يجعل الصدمة أقل وطئاً. واستخدم المارديني مصطلح “العوربة” كما أسماه مقابل مصطلح العولمة الذي أفرزته النهضة الثقافية الإعلامية العالمية، ووسائل الاتصال الحديثة والذي يعني التقريب بين الشعوب من مختلف الثقافات عبر اتصال منظم. بالمقابل مصطلح العوربة لا يحتاج إلى تعريف لأن الشعوب العربية متقاربة وذات ثقافات واحدة. ودخل المارديني في تفاصيل الاستلاب الذي يعيشه العرب وتحولهم إلى مجرد مستهلكين للتكنولوجيا ولوسائل الاتصال وللوجبات السريعة وإنفاقهم الملايين في هذا المجال. ولم يكن المجال الإعلامي والفني أفضل كما وصفه المارديني بوجود بعض الفضائيات العربية الهابطة وغزو الدراما التركية وأبطالها لشاشاتنا العربية. أما الجانب الاجتماعي فقد كان أسوأ مما سبقه، حيث تحولت الخادمة في أحيان كثيرة لأم بديلة تنقل للطفل عاداتها وتقاليدها. والنهاية التي أوصلنا إليها د. المارديني أنه إن كان هذا حال العرب المخزي فكيف يمكن لهم أن يعيشوا ويكون لهم دور في عصر العولمة؟ ورغم قسوة الصورة التي قدمها المارديني في توصيف حالة العرب، ورغم سوداويتها إلا أنه بدا مؤمناً بالأعاصير التاريخية كما وصفها، وأن تأثير ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا هو الأقوى، وهي التي ستعصف يوماً ما بالعالم كله مهما تكالبت قوى الغدر.
الحاجة لعلم ينطلق من مصادمة الأفكار
وأكد د. حسام الدين فرفور، رئيس فرع مجمع الفتح الإسلامي لمعهد الشام العالي أن الدافع وراء طرح العنوان “هل يتكلم العلم بالعربية مرة أخرى” هو ما نعلمه جميعاً من تقصير أمتنا العربية والإسلامية وتخلفها عن ركب العلم والتكنولوجيا. ورأى فرفور أننا لونظرنا إلى الماضي لعلمنا أن أمتنا العربية الإسلامية بما كانت تضمه من مسيحيين ومسلمين وطوائف أخرى ساهمت مساهمة فعالة في مجال العلوم، وقادت ركب الحضارة في مختلف العلوم الدينية والإنسانية وعلى أيدي الأساتذة العرب تتلمذ الغرب. وبدا د. فرفور في مشاركته منفتحاً عندما تحدث عن علماء الغرب فهو لا يجد ضيراً، بل يشدد على ضرورة أن يأخذ العرب من علماء الغرب، لأن الغرب مطالب أن يرد لنا الدين، فنحن من علمناهم عندما كانوا يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى العواصم العربية طلباً للعلم، من هنا تأتي ضرورة أن نأخذ عنهم. والشرط الذي شدد فرفور عليه في هذا المجال هو أن نحمل الراية ونعود كما كنا. وبالعودة إلى عنوان الندوة “هل يتكلم العلم بالعربية مرة أخرى” أجاب فرفور على هذا السؤال بسؤال آخر مفاده، هل ستعود الأمة العربية إلى مقود العلم وتترك بصماتها في شتى العلوم. وهنا أكد أنه لنحقق ذلك بحاجة لعلم ينطلق من مصادمة الأفكار، الفكر الفلسفي والديني والاجتماعي، وعلم ينطلق من التجربة.
تمسكنا باللغة العربية
وعبر د. عبد الفتاح البزم، مدير معهد الفتح الإسلامي، عن أسفه لأن أغلب أبناء الأمة العربية في هذه اللحظة الصعبة من حياتها قد نسوا لغتهم وخلفوها وراءهم ظناً منهم أن لغة الحضارة والعلم هي غير اللغة العربية، وتحدث البزم عن هذا التقصير في مجال الإعلام العربي والذي يقضي الإعلاميون فيه على اللغة العربية وقواعدها، وهذا ما لا نراه في لغة أخرى عندما ينطق بها أبناؤها. وعاد البزم بالتاريخ ليؤكد أنه وبالرغم من محاولات البعض لينالوا من العربية، إلا أن الله قد حفظها من خلال حفظ القرآن الكريم. ومع تأكيده على الوضع الصعب الذي تعيشه لغتنا إلا أن البزم رأى أنه لا يمكن لأحد أن ينال من العربية رغم تقصير أبنائها، لكن لابد من التأكيد على فكرة تمكينها والتمسك بها من خلال التعاون بين جميع المؤسسات والجهات بشكل يعيد لها أصالتها ومكانتها، لأننا لن نبلغ المجد إلا بتمسكنا بها كونها إناء يحوي كل ما نتطلبه ونتمناه.
العجز ليس في اللغة
ورأى د. مازن المبارك عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية في المجمع، أن عنوان الندوة يحمل إحساساً بالأمل والحرقة بنفس الوقت، الأمل لأنه يدل على إمكان عودة العلم ليكون بالعربية مرة أخرى، أما الحرقة فلأن السؤال نفسه يدل على المستوى الذي وصلت إليه اللغة العربية من الانحسار فأصبحنا نشك بقدرتها ومستقبلها، وبالتالي قدرتنا نحن العرب. كما شدد المبارك على أهمية أن تكون الإجابة على هذا التساؤل موضوعية بعيداً عن شعورنا العاطفي وتقديسنا للغة. وهنا توقف عند العرب الذين سلكوا للعلوم طريقاً ولغة غير لغتهم، حتى أنهم لم يعرّبوا التعليم العالي، وأصبحت العربية عندهم مقررات دراسية لا علاقة لها بغير المختصين باللغة، وهؤلاء أنفسهم يقبلون بالترجمة بديلاً عن التعريب، وفي هذا تناقض ويستثنى المبارك من ذلك سورية التي حافظت على اللغة في جامعاتها، ودرّست التخصصات العلمية كالطب بالعربية. من هنا كان تأكيده على أن الدول العربية إن خرّجت علماء تخرجهم بمختلف العلوم والألسنة إلا اللسان العربي، وسورية تخرّج عربياً قبل أن يكون عالماً، ونحن بحاجة إلى العربي الطبيب والعربي المهندس. وبعد عدة أمثلة قدمها المبارك أكد أن ما تعيشه اللغة ليس عجزاً في اللغة كما يحاول البعض أن يصورها، بل عجز بشر. أما الحل الوحيد للخروج مما نحن فيه فهو أن ننتج العلم ونصدّره، وألا نبقى مجرد متلقين وناقلين فقط، لأن اللغة العربية الآن هي الأمل الوحيد الجامع للعرب بعد أن دمرت أكثر المرتكزات الوحدوية.
لا هوية دون لغة
المشاركة الأخيرة في الندوة كانت لعميد معهد الشام العالي، د. تيسير أبو خشريف، الذي رأى أن اللغة العربية هي لغة الشريعة والثقافة والحضارة، وهي صلة الوصل بين المشرق والمغرب وبين الماضي والحاضر والمستقبل. كما تحدث خشريف عن الجهود التي تبذلها وزارة الأوقاف في سبيل تمكين العربية ليس بين الطلبة السوريين فقط، بل من خلال تعليم المئات من غير الناطقين بها ومن مختلف الجنسيات عبر المعهد الدولي للعلوم الشرعية، ليكون هؤلاء سفراء للعربية في بلدانهم. من هنا يحق لنا أن نفخر بلغتنا، لكن يجب أن يكون من مظاهر فخرنا إغناؤها بالإبداع في شتى صنوف العلوم، فلا هوية بدون لغة ولا وطن دون هوية.
وتخلل الندوة مداخلتان الأولى قدمها د. . محمود الربداوي والثانية د. نزار أباظة، أكدا من خلالهما على أهمية الاهتمام باللغة العربية وتمكينها، خصوصاً في هذه الفترة التي نعيشها كما أثنيا على الجهود التي تقوم بها وزارتا التعليم العالي والأوقاف لحماية لغتنا العربية، مبرزين الدور الذي يقوم به مجمع الفتح الإسلامي في هذا المجال.
ورافق الندوة معرض للكتاب اشتمل على أهم مقتنيات المجمع من الدوريات والموسوعات، إضافة لركن للمطبوعات باللغات العربية والانكليزية والفرنسية ونماذج من الأعمال العلمية لأعضاء الهيئة التدريسية في المجمع، إضافة لركن خاص بالخط العربي ورسائل التخرج من المعهد الشرعي في المجمع، وتضمن المعرض الفني لوحات من الخط العربي وقسماً للصور الضوئية لأعمال الخط في أبرز مساجد دمشق. حضر اللقاء رئيس جامعة دمشق د. حسان الكردي والشيخ د. توفيق رمضان البوطي وعدد من المدراء المركزيين في وزارة التعليم العالي والعمداء ونوابهم ورؤساء الأقسام العلمية وأعضاء الهيئتين التدريسية والإدارية في فرع مجمع الفتح الإسلامي، وعدد من اللغويين، إضافة لعدد كبير من طلاب وطالبات المجمع.
جلال نديم صالح