ثقافة

لا يمكن لأي مثقف حقيقي أن يكون مع الظلام ضد النور ومع الغزو الخارجي ضد الوطن . . . الشاعر هادي دانيال: تجربتي الشعرية لا تشبه أي تجربة أخرى… والحياة هي ملهمتي

حمل الفتى السوري “هادي دانيال” كلماته الشعرية وأحلامه الغضة على كتفه ورحل من مسقط رأسه بريف اللاذقية في سبعينيات القرن الماضي ضاربا في الأرض بحثا عن ذاته وكينونته، مفتشا عن كنزه الوجودي ليحط به الرحال في تونس العاصمة دون أن يتخلى عن جنسيته السورية كما فعل مثقفون آخرون، فبقي الوطن في قلبه يزوره كلما سنحت له الفرصة محملا بثمار ابداعات تنوعت مجالاتها بين الشعر والسياسة والنقد الأدبي والسينمائي. وعلى الرغم من قساوة الغربة فقد فاز دانيال بتجربة انسانية وأدبية وفكرية على مستوى عال من الغنى والثراء والتنوع جعلته يحظى باهتمام القراء ودور النشر بعد أن بلغ رصيده أربعة وثلاثين كتابا أبرزها كتاب “سورية التي غيرت وجه العالم” وكتاب “مؤامرة الربيع العربي” وثماني عشرة مجموعة شعرية كان آخرها “في وضح الردى أراقص الجبال”.
وفي زيارته الأخيرة لدمشق التقته صحيفة “البعث” وكان الحوار التالي:
> كيف تجمَعُ بين كَوْنك شاعِراً وكاتباً ومُفكِّراً سياسِيَّاً؟
>> بَدْءاً أؤكِّدُ على أنَّ مَشروعيَ الإبداعيَّ الأساسَ والرئيسَ هُو مَشروعٌ شِعريٌّ، وكِتابَتي في النَّقدِ الثقافِيِّ ترفدُه، ولكنَّ اهتِمامِيَ بالفكر السياسيّ الذي بَدَأ عندِي مُبَكِّراً بدا لافِتاً في السنواتِ الأخيرة مِن خلالِ إصداري ستة كتب تتصدّى لمؤامرةِ “الربيع العربي” ذلك أنّ تلك الكتب قامَتْ على أفكار اعْتَرَضَتْ تَيَّاراً (فكريَّاً) مَشبُوهاً يُسَوِّقُ خطَّةَ (الشرق الأوسط الجديد) ولَو أنَّ أحداً غيري طَرَحَ هذه الأفكار لكنْتُ أعفيتُ نفسيَ مِن عناءِ كتابة وإصدار تلك الكتب الستّة، وَوَجَّهْتُ الجهدَ الذي بذلتُهُ في كتابتها إلى مَشرُوعِيَ الشِّعريّ الأهَمّ عندي، فأنا شاعِرٌ بالفطرة وناقِدٌ ثقافيٌّ أعَمَل في الصحافة الثقافيّة، و”مفكّر سياسي”- وهِيَ صِفَة لاتُغريني- بقوَّةِ الواجبِ الوطنيّ.
> ألا تُشَتِّتُكَ الكتابَةُ في أكثَر مِن مَجال؟.
>> هِيَ لا تُشَتِّتُنِي فِكريَّاً، لأنَّ مرجعيَّتي الفكريّة الوطنيّة التقدّميّة واحِدَة عندما أكتُبُ شِعْراً أو نقداً أو مقالاً سياسيَّاً، لكنَّها تُشَتِّتُ وَقتِيَ الذي أنا في حاجَةٍ ماسَّةٍ إليهِ لِمُواصَلَةِ الاشتِغالِ على مَشرُوعِيَ الشِّعريّ قِراءةً وتأمُّلاً وكتابةً.
> وهَل اكْتَمَلَ مَشْروعُكَ الشعريّ حتى انتَقَلْتَ إلى الكتابةِ في السياسة؟.
>> كانَ انشِغاليَ بالكتابةِ السياسيّةِ تَحْتَ ضَغْطِ واجِبٍ وَطَنِيٍّ تَسَرَّبَ إلى خِطابيَ الشِّعريِّ أيْضاً، أي أنني لم “أنتقِلْ” مِن مَجالٍ حِبْريٍّ إلى مَجالٍ حبريٍّ آخَر، خاصَّةً وأنَّ مَشرُوعِيَ الشِّعريَّ لن يكتمِلَ ما دامَ جَسَديَ مُحْتَفِياً برغباتِهِ فَوقَ الثَّرى، ومُكتَنِزاً بآليّاتِ تدبيرٍ وتفكيرٍ وتخييلٍ وإبداع يُقاوِم بها ديدان الزَّمان الخَفِيّة وذؤبانَ المكانِ الجليّة.
> كيفَ تُصَنِّفُ تجربتكَ الأدبية بمُجْمَلِها، وهَل أنتَ راضٍ عَنها؟
>> يَتَعَذَّرُ عَلَيَّ تَصنيفُ تجربةٍ أدبيّة لا تكتمل إلا بغياب جسَدِ صاحبها، ولكن تجربتي بالتأكيد لا تُشبِه أيَّ تجربة أدبيّة أخرى، في الأقلِّ لأنَّ مرجعيَّةَ تجربتي هي الحياة بعامّة وحياتي الشخصيّة بخاصّة وقلّما تحَوَّلَ الشأن العامّ إلى شأن خاصّ في تجربة أدبيّة كما هو الحال عندي، وهذا تَوصيفٌ غير تقييميّ لا يُعلي في شأن تجربتي ولاينتَقِصُ منه. وعلى الرغم مِن أنَّ ردودَ الفِعْلِ تلقّي ثِمارها عند الجمهور أو النُّخَب كانت ولا تزال ردود فِعْلٍ مُشَجِّعَة، إلا أنَّ رِهانيَ الرئيسَ على الزمن، فَهُوَ الغربالُ النَّقديّ ذو الثُّقوبِ الواسِعة الذي يؤكِّدُ جَدارةَ أيّ تجربة بالبَقاءِ في دائرة اهتِمامِ الأجيال البشريّة المُتلاحِقة أوْ بترْك مصيرها لعَبَثِ مِكنسَةِ النسيان وهاوية الإهمال.
> ما هُوَ طُمُوحكَ الثقافي على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد الوطني؟
>> على الصعيدِ الشخصيّ آمَلُ أن يُتاحَ ليَ الوقتُ الكافي لأقرأ وأشاهِدَ وأسمَعَ أهمَّ ثِمار الإبداع البَشَريّ الكلاسيكيّة والمُعاصِرَة في مُختَلَفِ الفُنونِ والآداب. وعلى الصعيدِ الوطني أرجُو أن تنتبه جميعُ المؤسسات الثقافيّة المَعنِيَّة الرسميّة والأهلية إلى ضرورةِ التأسيسِ لثقافةٍ وطنيّةٍ علمانيَّةٍ تقدُّمِيَّة بَعيداً عن الشِّعاراتِ المُنْفَصِلَة عن الواقِع والخطابات التضليلية الترقيعية.
> ما هُوَ تَعريفُكَ للمثقَّف، وأينَ هُم المثقفون السوريون مما يجري في سورية؟
>> المُثَقَّفُ هُوَ الذي يُكَوِّنُ في عَقلِهِ وَوجْدانِهِ مِن تَلَقِّيهِ المَعرِفِيِّ المُتَنَوِّع والشامِل مَنظُومَة فِكريّة وَقِيَمِيَّة يَتَمَثَّلُها في سُلوكِهِ وَمَواقِفِهِ إزاء الصِّراع الدّائر بين الخير والشّرّ، بين العَدَالة والظُّلم، بين الحقّ والباطِل في مُجْتَمَعِهِ والعالَم. وبالتالي لا يُمكِن لِمُثقَّفٍ حقيقيّ تحتَ أيِّ ذريعَةٍ أن يكونَ مع الظلامِ ضدَّ النُّور، ومع البداوة والتوحُّش ضدَّ الحضارة الإنسانيّة، ومَع الغزو الخارجيّ ضدَّ الوطن، أو مع مصالِحِهِ الأنانيّة ضدَّ مَصالحِ شَعْبِهِ ووطَنِهِ.. بهذا المَعنى كان “مُثَقَّفون” سوريّونَ كثيرون منهُم مَن ترعرعَ في أحضانِ البترودولار ومؤسسات المخابرات الأجنبية، ومنهم مَن كَرَّسَتْهُم المؤسساتُ الرسميّةُ السورية، أنانيّين ومُنافِقِينَ وَخَوَنَة، ليس فقط لتلك المؤسسات بل لحليب الأم وتُراب الوطن وهَوائه، وجميع هؤلاء لا يتَمَثَّلونَ في سلوكِهِم ومَواقِفِهِم ما كانت تدَّعِيه كتاباتُهُم قبل الأزمة، ويؤسِفُنِي أنَّنِي في زياراتِي إلى بلدي سورية خلالَ الأزمة كان همّ عَدَدٍ مِن الذين ألتقيهم الحديث في مصلحةٍ شخصيّة أو البحث عَن خلاص شخصيّ، ويعدّون الحديث في الشأن العامّ والمصلحة الوطنيّة العُليا “مُزاوَدَةً” أو تَرَفاً.
> هَل تُعَوِّلُ على الثَّقافَةِ للخُرُوجِ مِنَ الأزمة؟
>> لاشكّ في أنَّ للثقافةِ دَوراً في بناءِ الوَعي الوطنيّ، وهذا الوعي هُوَ الذي يُوَجِّهُ سِلاحَ المُواطِن الفَرْد في أيِّ خَنْدَقٍ كان، ولذلكَ كُنْتُ أتَمَنّى على وزير الثقافةِ الجديد أن يكونَ عنوان برنامج عمله “بناء الثقافة الوطنيّة” وليس ”المُصالَحَة الوطنيّة” التي لها وزارتها، ثُمَّ على أيّ أساس ستكون المُصالحة مع مُثقّفين خانوا وطنَهم الذي يخوض معركة وجود؟ هل ستقولون غُرِّرَ بهم بالمال ولم تُلَطّخ أيديهم إلا بالحبْرِ الفاسد؟!.
> ما هِيَ طُقُوس الكتابةِ لدَيكَ، وما هي مَصادِر الإلهام؟.
>> عندما كُنْتُ في السابعة عَشَرَة مِن عُمري كانَ يُشارُ إليَّ بأنني الشاعرُ الذي يكتبُ في الحَدائقِ العامَّةِ وَقْتَ الظَّهيرة، وأحياناً كُنْتُ أستيقظُ مِن نَومِيَ لأفرغَ مُقَطَّعَةً أوقصيدَةً كامِلَةً كتبتُها في الحلم، وحتى الآن أجدُني فجأة أتَوقَّفُ في الطريق لأدُوِّنَ على قُصاصَةً مَطْلَعاً شعريَّاً (طلعَ منّي أو نزلَ عليّ)، أنا بالتأكيد لا أعدُّ الشِّعْرَ وَحياً، بل هُو عندي إيحاءٌ مُفاجئٌ مِن لحَظاتِ الحياةِ ومفرداتِ واقِعِها اليوميّ، وهو أحياناً استِجابَةٌ لِتَفاعُلٍ وجْدانيٍّ ضاغِطٍ مع مُعاناةٍ بَشَرِيَّةٍ في حَيِّزٍ جغرافيٍّ بعيدٍ قريب، والحياةُ هي مرجعيّةُ كتابتي الشعريّة أي مُلْهِمَتي، وبالتالي قد تكون مصادر الإلهامِ جميلةً أو بشعةً، مؤلِمةً أو مُفرِحَةً، مُضْجِرَةً أو مُمْتِعَةً، عناقا أو طعنةً، فكرةً أو حالة إنسانيّة، بشَراً أو حجَراً، غيمةً أو طيراً إلخ.. لكنني أعترفُ بأنّهَ بَعْدَ أن عَيَّرَني الشَّيْبُ بالإمساكِ بي (58 سنة)، أختارُ لكتابة النّقد أو المقال السياسي مكاناً يُقَدَّمُ لي فيه القهوة الساخنة والماء البارد والنرجيلة الفاخرة.
> كيف يقضي هادي دانيال وقته وكيف يمضي يومه؟
>> أستثمِرُ وقتي عادَةً في القراءةِ والكتابةِ، والحُبّ، وسَماعِ المُوسيقى، وتصفح مواقع الانترنيت والفيسبوك، وهذا يحصل غالبا بين شقتي والمقاهي القريبة منها في العاصمة التونسية، ولكن مؤخرا أخذتْ بعضه التظاهراتُ والمُظاهرات، بالاضافة الى رياضة المَشي وأحياناً، قد تعصف بنمَطِ حياتيَ اليوميّة صديقةٌ أو صديق، أو حَدَثٌ ثقافيٌّ أو سياسيّ.
> ما هُو أكثر عَمَل تعتزّ به مِن أعمالكَ وتقول: هذا العَمَل يُمَثِّلُني؟.
>> كُلُّ ما كَتَبْتُهُ يُمَثِّلُني في لحظةِ كتابتِه، لكن حين أعُود إلى قراءةِ أعماليَ الشعريّة كافّة كثيراً ما أتساءل: هل أنا مَن كتَبَ هذا حَقَّاً؟ ومَع الوَقتِ تَبَيَّنَ لي أنّ العَمَلَ الذي تدمَعُ له عيناي وأنا أكتبُهُ هو ذاته العمَلُ الذي تَدْمَعُ له عيناي عندما أقرؤه بعد مُضيّ فترة طويلة على كتابتِه، كما تدمَع له عيون قراء من مستويات وأجيال وأمكنة مختلفة. وفي كلّ مجموعة من مجموعاتي الشعرية ثمّة قصيدة أو أكثر تهزّني بعنف كلما قرأتها، لكنني لا أستطيع أن أنتخبَ مجموعة شعريّةً بعينها وأعدّها الأفضل.
> لديكَ 18 مجموعة شعريّة، ولكنكَ لست معروفاً على نطاقٍ واسِعٍ في سورية، ربّما كُنْتَ مَعروفاً في تونس أكثر؟
>> بما أنني غادَرْتُ البلادَ في أوائلِ سبعينياتِ القرن الماضي وكنتُ حينَها بدأتُ أُعْرَفُ بين قرّاءِ المجلّاتِ والصُّحُفِ السوريّة باسمِ “عبد الهادي الوزة”، لأغيِّرَ اسمِيَ في بيروت بَدْءاً من سنة 1975 إلى “هادي دانيال” (أخذت مِن اسميَ الأصليّ “هادي” وجَعَلتُ مِن اسمِ أبي “دانيال” لقباً)، فَمِنَ الطبيعيّ ألا أكون مَعروفاً عندَ القارئ السوري بما أنني غُبْتُ نِهائيَّاً عن فضاءاتِ تلقّيهِ كافّة، لكنني بدأتُ بالعَوْدَة التدريجيّة المُحتَشِمَة جدّاً إلى هذه الفضاءات بَدْءاً مِن سنة 2003، فواقع الأمر أنه مِن الأربعة وثلاثين كتاباً التي صدرت لي حتى الآن لم يصدر في سورية غير مجموعة شعرية بعنوان “في مهبّ الرغبات” سنة 2003عن دار البلد بدمشق، ومختارات مِن شِعري أعدّها وقدّمها الدكتور مصطفى الكيلاني صدرت سنة 2009 بعنوان “صَقْر الرُّؤى” عن دار الفرقد بدمشق أيضاً. لكنّ حضور كتابتي الشعرية والنقدية والسياسية كان متواتراً في السنواتِ الأخيرة على صفحات الصحف الرسمية السورية الثلاث (البعث، الثورة، وتشرين) وطبيعي أن أكون معروفاً في تونس التي تصدُرُ وتُوزَّعُ فيها كتبي منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، ولكنني معروفٌ مثلاً بشكل جيد في فلسطين والأردن ولبنان والجزائر والمغرب وحتى السعودية، ناهيك عن أوساط الجاليات العربية في الدول الغربية، يؤكّد ذلك الإقبال على كتبي في أجنحة الدور التونسية من معارض الكتب الدولية فيها، والمقالات التي تتناول بمقاربات نقدية كتبي في دوريات وصحف الدول المذكورة.
> هل تعتبر نَفسكَ ناقِداً فنِّياً في السينما والمسرح مثلاً؟
>> أنا لم أصنِّفْ نَفْسِيَ ناقِداً ولم أسْعَ إلى ذلك، لكنَّ عمليَ في الصحافة الثقافيّة صَقَلَ ذائقةَ التلقّي عندي للسينما والمسرح والفن التشكيلي والموسيقى، فضلاً عن الأجناس الأدبيّة وهذا راكَمَ ما تضَمَّنتْه سبعةُ كتُبٌ أصدرتُها في النقد الثقافي منها واحِدٌ في المسرح وآخَر في السينما. وقد لَقِيَتْ هذه الكتب صدى وسجالاً لم أتوقَّعْه، وبَعْضها عَدَّه المَعنِيُّونَ مَرجعاً للاقتِراب مِن الإبداعِ الفلسطيني أوالتونسي.
> هَل مازالَ للشِّعْرِ مَكانٌ وقُرَّاءٌ وسطَ ما يُحِيطُ بنا مِن دَمارٍ وَخَراب؟
>> الشِّعْرُ ضَرورَةٌ في أزمِنَةِ السّلم أكثرَ منه في أزمِنَةِ الحرب. في السّلم قد يُساعِدُنا على تبديدِ الضَّجَرِ والارتِقاء بذائقتنا لِتَلَقِّي الجَّماليّ المُحيط بنا، وعلى تنشيطِ مُخَيّلتنا الكسول وعلى تعزيز قدرة التأمُّل ونباهَته الاستكشافية عندنا. لكن في الحرب وأزمِنَةِ المأساة يفتَح لنا نَوافِذَ الأمَل عندما يحضّنا على الانتباهِ إلى تَجلّياتِ مُقاوَمَةِ الحياةِ وتصدّيها للمَوتِ وغَطْرَستِهِ الكئيبة المُرعبة، تجليات قد تُعَبِّر عنها قطرة نَدى على عشبة خضراء أو زهرة تتمايل بين ذراعيِّ نَسْمَة، وكلّ منهما تزهو بهشاشتِها فوق الركامِ والأنقاض، أو قد يُعَبِّر عنها أيضاً بُزُوغُ مَوقِفٍ إنسانيّ مِن بين أهوالِ ووحشيّةِ الواقع الراهِن، إضافةً إلى ذلكَ فإن الشعريستعيدُ أغراضَه القديمة المتجددة في التحريضِ على المُقاوَمةِ الدّفاعيّة ضدّ الغزاةِ والقتلةِ هِجاءً ساخِراً، أو يُعْلِي في داخِلَنا مِن قيمَةِ الوطَن والحبيب والحبيبة والأبناء والأصدقاء الذين نشعر لأوّلِ مرَّةٍ بأننا قد نفقدهم فَخْراً وغزَلاً ورثاءً ومَدْحاً، كما يؤكِّدُ الشعر أنّ “على هذهِ الأرض ما يستحقُّ الحياة” والشِّعْرُ لا نتَلَقَّاهُ مِنَ القصيدة فقط، بل مِن الرّواية والقصّةِ القصيرة والأعمال السينمائية والمسرحية والموسيقية والتشكيلية التي صارت شِعريّتُها مِن شروط تحقٌّقِها الإبداعيّ الناجح.
> بماذا تنصح الشعراء والكتاب الشباب؟
>> أنا عادةً أمْقتُ نصائحَ العجائز، ولكن إن كانَ لا بُدَّ فنصيحتي الوحيدة إلى نفسيَ وإلى غَيريَ من الكتاب الشباب والمُكَرَّسين هي عَدَم التوَقُّف عن القِراءة.
> هل حَظِيَتْ كُتُبُكَ السياسيّة بالرّواج والاهتِمام الذي كُنْتَ تتوَقَّعَه؟.
>> نَعَم لقد حظيتْ بأكثَر مما كُنْتُ أتَوقَّعَه فمُعظمها نَفَدَ على الرغم مِن أنَّها صَدَرت جميعها في تونس ولم تُوَزَّعْ خارِجَها إلا في معارض الكتاب الدوليّة أو بطرق شخصيّة، بل إنَّ كُتبي السياسيّة أضافت – بدافع الفضول ربّما- قراءً جدداً يقتنون كتبيَ الشعرية والنقدية، ربّما كان ذلك لجرأتِها في اعتراض تيّار حبري يُسَوِّقُ وعياً قطيعيّاً مُتَحَمّساً للربيع العربي وثوراته المَزعومة، ولم يُخْف قراء كتبي حماستهم لها ولِما وجدوه فيها مِن أجوبة مقنِعة على أسئلتهم الحائرة.
> ماهِيَ رؤية الشارعِ التونسيّ للوَضْعِ في سورية؟
>> لقد فَرَضَ صُمُودُ الجيشِ والدَّولة والأكثَريّة الوطنيّة مِن شَعْبِنا تَحَوُّلاً في الوَعْيِ والمزاجِ الشَّعبيّين عنْد الرأي العام الشعبي العالمي، بما في ذلكَ الرأي العام التونسي إزاء الوضع في سورية، خاصّة بعد الانكشاف السريع لحقيقةِ وتداعياتِ ما يُسَمّى “الربيع العربي” الكارثيّة في الدُّوَل التي استَهْدَفَها بَدْءاً مِن تونس، لِدَرَجةِ أنّه حتى الذينَ مازالوا يُكابِرون بتسميةِ ما حَصَلَ في تونس “ ثورة”، يُسَمُّونَ ما حصَلَ ويحصَل في سورية مؤامَرة لصالح الكيان الصهيوني. كما أنَّ الزجَّ بآلاف التونسيين والتونسيات في المَحْرَقة السوريّة بذرائع “جهاديّة”، جَعَلَ مِن مَطلب عَودَة العلاقات مع الدولة السورية للمساعدة في إيقافِ هذا النَّزيف الذي أرْهَقَ العائلات التونسية مَطْلَباً شَعبِيَّاً أخَذَتْهُ في الحسبانِ القُوى التي شاركت في الانتخاباتِ التشريعيّة والمُترشِّحُون للانتخابات الرئاسية في تونس.
> لماذا ترفض الحصولَ على جنسيّة غَيْر سوريّة؟
>> هذا بالنسبة إليَّ مَوقِفٌ وطنيّ أدرَكْتُ صحّتَهُ أكثر في هذه الأزمة. فمُعظَم الذين حَمَلوا جنسيات أخرى عربية أو أجنبية دَفَعُوا ثمَناً باهِظاً مُقابلَ حملهم جنسيّة غير جنسيّتهم السورية، خاصّة أولئكَ الذين يحملون جنسيات دوَلٍ أعلنتْ حكوماتُها مواقف عدوانيّة صريحة ضدَّ بلادِنا.
> تكرّر مصطلح تقنيي المعرفة في مقالاتكَ، فَمَن هُم المَقصودونَ به؟.
>> تَقنيّو المعرفة هُم الذين يعدّونَ ما اكتسبُوه مِن معارف سلْعَةً يَعرضُونَها على مَن يَدْفَع حتى لو كانَ الأخير ليسَ فقط عَدُوَّاً لبلادِهِم وشَعْبِهِم، بل عَدوّاً كذلكَ لمنظومَةٍ قِيَمِيَّةٍ كانوا يدَّعون الالتِزامَ بها أوالتعبير عنها وبالتالي تمثيلها لا تَمَثُّلها، ولنا في “صادق جلال العظم” و”برهان غليون” و”ميشيل كيلو” و”عبد الرزاق عيد” وأمثالهم أدلّة على ماعنيْتُهُ بهذا المصطلح.
> هل سَبَّبَتْ لكَ صراحَتُكَ وتسمية الأشياء بمُسَمَّياتِها أيّة مَشاكل؟
>> بالتأكيد، وهذه ضريبة على استعدادٍ لدفعِها دائماً، فأنا أعتقدُ بأنّ الكتابةَ نقديَّةٌ بالضرورة، وفي عَهْد “حركة النهضة” تمَّ اقتحام منزلي وإرهابي في الشوارع وتقديمي إلى المحاكمة مع ناشر كتابي “ثورات الفوضى الخلاقة: سلال فارغة”، ولكنني كسبت الدّعوى بتضامُن المحامين والقضاة معي.
> ماذا أعطتكَ الغُربةُ؟ وهل تُعيد التجربة إذا عادَ بكَ الزَّمَن؟
>> أعطَتْنِي الغُربةُ تجربةً إنسانيّةً ثريَّةً على الرغمِ مِن قَساوَتِها، فأنا عرفتُ كلَّ المِحَن التي يُمكِنُ أن يتعَرَّضَ لها فتى وشابّ وحيد رُوحُه مُتمَرِّدَة حَرونٌ وعَصِيٌّ على الترويض في مُعتَركِ حياة قاسية، جعْتُ وتَشَرَّدْتُ وعرفتُ كذلكَ المَباهِجَ والمَسرّات. أما هل أعيد التجربة؟ لا أدري. لكنني على يقين مِن أنَّ كُلَّ مُبْدِعٍ أصيل مَعْجُونٌ بالغُربَةِ الوُجوديّةِ وقلَقِها حتى لو لم يُغادِرْ مَسْقطَ رأسِه أو حضْنَ أمِّهِ.
> هل تستَشْرِفُ المُستَقبَلَ أم تُوصِّف الواقِع في كُتُبِكَ السياسيّة؟
>> في الكتابةِ السياسيّةِ أجمَعُ مُعطَيات الواقِعِ السياسيّ الذي أريد مُقارَبَتَهُ، وأحَلِّلُ هذه المُعْطَيات، وأقَدِّمُ مُلاحَظاتي النَّقدِيَّة والاستشرافِيَّةً، فالكِتابَةُ السياسيَّةُ إنْ لم تنتَقِدْ وتُحَذِّرْ وتَسْتَشْرِفْ تكون مجرد زَبَدُ حِبْر.
> ماهِيَ قراءتكَ لِما يَجْري في سُورية؟
>> في سورية أفشَلَ جيشُنا العقائدي السيناريو المعد للمنطقة وبات معلوماً أيضاً أنَّ صُمُودَ الجيش السوري جَذَب إلى ميدان الصِّراع على المنطقة والعالم قوى دولية وإقليمية صديقة وحليفة لسورية حالت دونَ تدخُّل عسكري خارجي فيها. ولاشكّ أنّ شعبنا ودولتنا وجيشنا الباسل دفعوا ويدفعون ثمناً باهظاً وقَدَّمُوا ويُقدِّمُون تضحياتٍ جِساماً وسَطَّروا ويُسطّرون بُطولاتٍ ملحميّة وتراجيديّة في آنٍ مَعاً، دِفاعاً عَن وُجُودِنا المُهَدَّد، ذلكَ أنّ الأعداء فَرَضُوا علينا حَرْبَ بَقاءٍ أو فَناء.
حاورته: سلوى صالح