ثقافة

من “دائرة الطباشير القوقازية “إلى دائرة الشَّك … مسرحية أيمن زيدان قالت ما تريد أن تقول

وقع خيار الفنان أيمن زيدان على نص “دائرة الطباشير القوقازية”، النص المسرحي الأشهر لمؤلفه “برتولت بريشت”، ليقدمه في عمل مسرحي يحمل الاسم ذاته، على خشبة مسرح الحمراء بدمشق، ومن إنتاج مديرية المسارح والموسيقا.
“دائرة الطباشير القوقازية” التي كتبها “بريشت” عام 1933، والتي تقدم في سورية لأول مرة، رأى فيها الخبير “زيدان” أنها ستكون حاملاً متيناً للأفكار التي أراد أن يطرحها من خلال العرض، حيث جاءت المسرحية مكتظة بالإشارات، والتصريحات التي تتقاطع والراهن السوري الحالي، حتى ولو أخبر “زيدان” في حواره مع البعث ، “أجرته الزميلة أمينة عباس” بتاريخ 17-12-2014، بأن لا إسقاطات مباشرة للعرض على الحالة الراهنة، إلا أن جملاً كثيرة وردت في الحوار ليست موجودة في النص الأساسي، تحمل في دلالاتها المباشرة علاقة وطيدة بالآن من قبيل: (هل أنت مغرر بك، أم أنك ممن لم تتلطخ أيديهم- ملعون أبو الفقر الذي علّمنا الخوف- أن يذهب من نحبهم إلى الحرب بلا سبب- القادة الذين يتاجرون في الحرب، ولا تعنيهم أن تنتهي باعتبارهم صاروا، أي القادة، تجار سلاح؟)، ولا أدري هنا إن كان قادة ذاك الزمان الذي تحدث عنه “بريشت” كانوا يتاجرون بالسيوف مثلاً، أو بالرماح؟!.
أمر آخر: ينتهي كلام المخرج عندما يأخذ النص المسرحي شكله الأخير الذي سيقدم للجمهور، حيث سيكون من مهمة العرض أن يقول للناس أو لا يقول، الأمر الذي ينسحب على كل الفنون الأخرى، فليس من المعقول مثلاً أن نشاهد فيلماً سينمائياً أيضاً، ثم يذهب المخرج، أو الكاتب ليخبرانا عن أحداث، ونوايا لم نرها في نتاجه، لذا أنا أحاكم الآن ما قاله العرض، لا ما قاله المخرج.
يحكي العرض قصة حاكم تدور في بلاده حرب ضروس، بعد اندلاع ثورة شعبية في البلاد، لكن هذا الحاكم منفصل عن واقع مملكته، فهو مهتم بإقامة حفل ميلاد لوريث العهد أكثر من انشغاله بوصول أخبار المعارك التي يخوضها جنوده، ويخسرونها.. أخبار حقيقية ترده من ميادين الحرب من خلال فرسان يجيئون من تلك الميادين ليضعوه بواقع الحال، لكنه لا يصغي، واضعاً ثقته بوزيره، وما يقدمه له من أخبار ملفقة عن الحرب، الوزير نفسه الذي سيقود انقلاباً يقصي فيه الحاكم، ويجلس مكانه، يعرف بخبرته الطويلة أن بقاء الطفل على قيد الحياة يعني ظهور مشاكل مستقبلاً، هنا تبدأ قصة الطفل اللعنة، فالطفل التي نسيته الملكة عند هروبها، ستجده الخادمة “غروشكا”، أدت دورها الفنانة المجازة “ولاء عزام”، لتبدأ رحلة عذابها مع الطفل الذي يريده الجنود، ويبحثون عنه لقتله، ثم مع أخيها المحكوم من قبل زوجته، ثم مع الزوج الذي خدعها بمرضه المميت، لتعرف أن مرضه ما هو إلا خدعة للهرب من الذهاب إلى الجيش، “كم سوري فعلها في الحرب التي تخوضها بلاده الآن”، مروراً بخسارتها لمن تحب بعد أن أصبحت متزوجة، وتريد ما يضمن حياة الطفل، ولن تنتهي عذاباتها التي سببها الطفل بظهور أمه الحقيقية الملكة لتطالب بابنها، ولتنتهي المسرحية بالمشهد الشهير الذي يقوم فيه القاضي بالحكم بين السيدتين، أيهما أحق بالطفل، ويرسم الدائرة، ويطلب من الامرأتين أن تشد كل منهما الطفل باتجاهها، ليحكم القاضي بأن الطفل للأم التي ربّته لا للتي ولدته.
جاء الأداء بمجمله متقناً، ومتجانساً، رغم التعقيد في الأداء الذي قدمته العديد من الشخصيات التي تغيّر دورها أكثر من مرة في العرض، إلا أن الشخصية الرئيسية التي تقود الأحداث، أي الخادمة “ولاء عزام” جاء أداؤها متواضعاً، وبرتم واحد، بعيداً عن التشكيلات الجسدية، والتلوينات النفسية التي تأخذها الشخصية في صراعاتها الملحمية، إن كان مع القدر، أو مع الذات، أو المجتمع، “حالات الصراع الثلاث التي تطور فيها الفن المسرحي”، وربما ما رشّحها لهذا الدور حجمها الضئيل فقط، ليبدو صراعها غير متكافئ أبداً مع محيطها، وأقدارها، كما أن اضطرار الممثلين لتقديمهم أكثر من دور بزمن العرض الذي امتد قرابة الساعتين، لم يكن بالخيار الموفق، الأمر الذي أثّر سلباً على سوية أداء معظم الممثلين الذين قدموا أكثر من دور، وربما هذا يؤخذ على الخيار الذي انتقاه “زيدان”، ليعود فيه بعد غياب عن خشبة المسرح إليها، ولكن “زيدان يعرف تماماً ماذا يقدم الآن للجمهور، لهذا اختار هذا النص دون غيره.
جاءت سينوغرافيا العرض مبهرجة، إضاءة مشرقة، أزياء فاقعة الألوان، خلفية سينمائية تدور فيها معارك مختلفة، موسيقا احتفالية لم تؤد أية خدمة وظيفية للعرض، بمعنى أنها جاءت مكملة للمظهر العام، للعرض، وليست من ضروراته.
عرف زيدان كيف يحافظ على انتباه الجمهور، رغم زمن العرض الطويل نسبياً، حيث قسم المسرحية إلى مشاهد تبدأ بالظهور تباعاً، فتنكشف الحكاية كلها رويداً رويداً، متّبعاً في ذلك مذهب بريشت نفسه في كسر حالة الإيهام، إن كان بتبديل الديكور، والعرض جار، أو باستخدام دمى عوضاً عن الشخصيات، وحتى بالمشاهد الإيمائية التي قدمها الممثلون للعديد من الأشغال التي قاموا بها، “الخادمة وغسل الثياب مثلاً”، وأيضاً في الحوارات التي جاءت كوميدية باعتمادها على التلاعب بالألفاظ التي حملت إسقاطات مباشرة على الراهن السوري الآن، وهذا برأيي إفراط في كسر حالة الإيهام، وكان الاكتفاء بجلوس الممثلين بين الجمهور، وهبوطهم إلى الخشبة من الجدار الرابع، بعد أن خلخلوا الجدار الرابع نفسه، كافياً لندرك كمشاهدين أننا يجب أن نحاكم ما نراه على الخشبة وفق الآن وهنا، وليس وفق زمن المسرحية الحقيقي.. أولسنا متورطين بما يحدث؟!.
لم يكن من المحبذ الآن تقديم شخصية دينية “الكاهن” بالصورة التي قدمها العرض بها: «سكير، وعربيد، مرتش، وكذاب» حتى لو كان هذا وارداً في النص الأصلي، فالنقد الذي قدمه بريشت، قدمه من منطق قناعاته الماركسية، منتقداً فيه من يعتبره الفكر الماركسي بأفضل الأحوال، ليس من الضروري إشراكه بأية عملية اجتماعية أهلية، بمعنى أن يبقى في كنيسته، وهذا الانتقاد قدمه بريشت للأكثرية الدينية في أوروبا لا لأقلية فيها، وهنا يبرز سؤال لا بد منه: لماذا لم نر في عرض زيدان (رجل الدين) الذي باتت صورته، وتفكيره الآن تسبب الرعب لأغلب الناس، الذي يفتي بذبح السوريين، وبقتلهم من على منابر مساجد بعض دول الخليج؟!.
تنتهي الحكاية التي بدأها الراوي، أدى دوره عروة العربي، بمقولة: “الأوطان لمن يحميها، ويدافع عنها، ويبنيها”، المقولة التي لم نرها في متن العمل، فكل الجنود الذين ظهروا في العرض هم انتهازيون، وصوليون، يتحرشون بالنساء في الطرقات، لا يقفون مع الحق إلا مضطرين، فهم حتى عندما قاموا بتعيين القاضي “أزداك”، أدى دوره الفنان “محمد حداقي”، فإنهم قاموا بذلك متأكدين من عدم قدرة الحاكم الجديد، بعد أن بدأ العصر الجديد، أن يظهر وكأنه ضد التقدم، والديمقراطية أمام الرأي العام، لذا سيقوم الجنود برفض ابن أخ الحاكم ليكون القاضي، وليس لأنهم أرادوا ذلك، أو لأن الشعب أراد.
ثم ما هي هوية هؤلاء الجنود الذين يحمون الأوطان؟ لم نر أية إشارة إلى هويتهم في عرض “دائرة الطباشير القوقازية”، أوليس من يقاتل في المقلب الآخر، يدعي بأنه يحمي الأوطان، ويبنيها أيضاً؟!.
تمام علي بركات