ثقافة

فلسطين التي ضيّعها المارقون.. تقتل “فلسطيني جداً” بعد موته!

البلاد التي لا تحفظ رموزها لتذهب في الهباء، الرجال رموز، الرموز مرايا البلاد، ليس الأمر جزافاً، لكن مرّ الحقيقة أنجع من مواراتها.. منذ البدء وفلسطين تقتل، كم من العتاة توالوا على ذبحها، اليوم فلسطين ماتت، ماتت فلسطين، أعلن للملأ موت القصيدة، من قال إن الشاعر يموت لتبقى القصيدة، هذا هراء يراد به باطل، وقف متحدياً كالطود.
انظر.. انظر.. اقترب لتستنشق عطر الحبر، للحبر عطر كفوح الياسمين، للتو خرجت من المطبعة، ساخنة كخبز فرن “أبو فؤاد” في مخيم اليرموك، لا بد أنك أكلت من ذلك الخبز، له فوح ينعش الأنوف والأرواح، فكلما ذهبت صباحاً باتجاه جريدتي “البعث أو الثورة”، يشدني ذلك الفوح نحو نافذة الفران: “وحياتك عطيني مرقدة”، ألا توافقني أن رائحتها تشبه رائحة خبز المخيم الطازج، خذها وتمعن.. بتلهف.. أخذت المطبوع الوليد، يا الله كم تغويني رائحة المداد، يالبهاء هذه الصفرة التي تلونت بها أوراقه؟!
بالأمس وبعد خمسين عاماً من الكتابة، بعد سبعة منافٍ، عمان، بغداد، الكويت، القاهرة، ليبيا، دمشق، وآخر منفى بيروت، بعد أربعة وثلاثين مطبوعاً مابين الرواية، والقصة، والمقالة، بعد وبعد وبعد.. من قال لكم إن الأوطان المغتصبة، تحرر بقوة السلاح فقط، السلاح وحده لا يستعيد وطناً سُرق جهاراً، وحده القلم رديف البندقية، البندقية دونه هي عصا، لا تهش ولا تكش.. في الأمس سقطت بندقية، تحولت إلى عصا، كيف تطير تلك القبّرة “فلسطين” بجناح كسير، وهل تصفق الكف وحيدة؟! مات “فلسطيني جداً” بالأمس القريب في بيروت وحيداً، يتيماً إلا من فلسطينيته، غريباً، سقيم القلب والروح، مات ولسان حاله يقول لي: “خلص أنا تعبت”. مات “فلسطيني جداً” بعد موته قتلاً، مات ألف مرة، ولست في صدد العتاب، لكن الجرح أعمق، قتل لأنه لم يرتهن يوماً إلى أي فصيل أو منظمة، أو تيار حزبي..
بالأمس أسلم الروح لله ولفلسطينه التي عشق، أما قالوا: “ومن الحب ما قتل”، لها وحدها أهدى مفاتيح روحه.. بقي “فلسطيني جداً” مسجى في المستشفى ينتظر فلسطين لتدفع فاتورة المنامة لمدة /24/ ساعة قبل الوفاة، ولم تأت أو ترسل رسلها ليردوا بعضاً من الدين، وكان لابد من قرع أبوابها باباً باباً، ماخوراً ماخوراً، وكان الجواب: “هو مش من جماعتنا”.
ملتك المنافي أيها الـ”فلسطيني جداً” في حياتك، وها أنت في مماتك دون ولي، فلسطينك كذبة أفنيت عمرك في اختراعها، أنني أمقتك الآن، لأنني عشقتها لعشقك لها، جننت بها كجنونك، لكن السؤال المقيت، لماذا تركتك في محنتك؟. بعد يوم بيروتي شاق، عاد كل من ذهب للبحث عن فلسطين، هي المرة الأولى التي يجمع الإخوة القول على واحد: لم نجدها. الكل تنصل، والكل أجمع أيضاً على عدم معرفتهم به.. ضاقت بك يا “فلسطيني جداً” كل مقابر بيروت وضواحيها، لا مكان لك هنا، أي جنون هذا الجنون؟. تململ الجسد المسجى في ثلاجة المشفى، سمعته يصرخ ملء شدقيه: لأجل هذه الساعة بقيت “فلسطيني جداً”، وكأنه يومئ لي أن أتصل بأحدهم، عاينت هاتفي بتمعن: ألو.. مات فلسطيني جداً، لم يترك المال لتسديد ثمن إقامته في المستشفى، وفي كل مقابر بيروت لم نجد له موطئ جسد. انتهت المكالمة، لتنهال عليّ المكالمات، وكأن مصدرها واحد، فلسطيني جداً لم يمت، وسيكون كل شيء على ما يرام، وصل “رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. وما بدلوا تبديلا”، وكان كل شيء على ما يرام، همس أحدهم في أذني قائلاً: لأنه فلسطيني جداً، سنعيده إلى فلسطين، سيعود من حيث أتى. كيف وأسئلة أخرى، وكان الجواب، سيوارى الثرى على أبواب فلسطينه في أرض الجنوب، بين أخلة لها، سنتركه يراقب “عين حوض” من “بوابة فاطمة”.. يا لهذا الشرف، يا لهذا المقام، شكراً “حزب الله”، شكراً “شيخ عطا الله حمود”، شكراً للكبيرين “طلال سلمان وقاسم قصير”، لم يكن هذا صوتي، كان صوت “فلسطيني جداً”، “نواف أبو الهيجاء”، هو يعرف أن الرجال معادن، وأن الجنوب المحرر بوابة الله الأولى.
هامش: كنا ستة مشيعين في موكب “فلسطيني جداً” الأديب الكبير نواف أبو الهيجاء، ولا سوانا.
صوت: لو أن أبي مات في دمشق، سيمشي في ركبه ألف مودع.
طلال مرتضى