ثقافة

الميتا واقعي هل يكمل فراغات الواقعي؟ وقعة «أحد» وصرخة الشيطان

أوس أحمد أسعد
ها هي معركة «أحد» تحصل، وتصميم «قريش» على الفوز بدا عالياً، وخطّتها الحربيّة واضحة، وعدد جيشها يزيد عن ثلاثة أضعاف جيش الرسول، مشحوذة بحقد دفين تجاه من أتى ليهدّد أمنها واستقرارها، بعد أن هزمتْها القلّة المسلمة في وقعة «بدر» وساءت سمعة الملأ القرشي ووهنت أحلافه مع القبائل وتهدّدت طرق تجارته: / رحلتا الشتاء والصيف إلى بلاد الشام صيفاً، وإلى اليمن شتاء/، وبدتْ مواثيقه مع الدول الكبرى آنذاك/ الروم والفرس/ تتخلخل، فكان لابدّ له من حلّ حازم لاستعادة الهيبة والمكانة المفتقدة تدريجيّاً، وكذلك ثأراً لزعمائه المدفونين في رمال «بدر»، /عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم وغيرهم../، فجهّزت قريش جيشاً بقيادات حامية الرؤوس، مشهود لها بالخبرة والمراس كـ /خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي الحكم الذي قتل والده في بدر/ ثمّ بدأت بتقوية الدعاية النفسية، ومحاولة ضرب المهاجرين بالأنصار لبثّ التفرقة، عبر قول زعيمهم «أبي سفيان» للأنصار:/ يا معشر الأوس والخزرج، خلّوا بيننا وبين بني عمّنا، وننصرف عنكم/ ثمّ لتأتي صرخة “ابن قمئة” التي سُميتْ بـ “صرخة الشيطان” حسب الرّاوي “الميتا واقعي” بسرده المؤسطَر للحادثة، محاولاً إضفاء البعد المافوق واقعي على الواقعي، وتلك طريقة مستحبّة لدى المخيال العربي ورواته، والذي ربط أسباب الهزيمة بها، وهي كحدث واقعي تجلّى بهتاف وإقدام “ابن قمئة” المدفوع قدماً من قادته القرشيين، ليؤدي غرضاً محدّداً، وهو الوصول إلى الرسول قد حدث فعلاً وأدّى بلا شكّ إلى إحداث البلبلة والفوضى في صفوف أنصار الرسول وليفتَّ في عضدهم، ولينسوا شعارهم كمن أصابتهم البهيتة.. كما يقول رواة السير، حيث علا صراخ “ابن قمئة” بأنّه أصاب الرسول، ثمّ ليتردّد صدى صرخته المسعورة في الوادي ولتفعل فعلها في صفوف المسلمين، ولتنهار معنوياتهم وتتخلخل صفوفهم حقيقة.. كما كانت الهزيمة من وجهة النظر الواقعية التّاريخيّة، أيضاً لأسباب إضافيّة مهمّة، منها ترك النّبالة لرأس الجبل وهبوطهم عنه، متمرّدين على قائدهم وعلى تعليمات الرسول، عكس ما كان من تنظيم ودقة وسبق واختيار استراتيجي للمكان  في “بدر”، مستعجلين ليحصلوا على الغنائم، ظنّاً منهم أنّهم بهزيمة ميمنة الجيش التي كانت في بداية المعركة، قد تحقّقت هزيمة قريش، لكن الميسرة والقلب بقيادة كل من/خالد بن الوليد وعكرمة/ كانا ثابتين،لم ينهزما، ومن هنا كانت الخطّة التكتيكيّة المخادعة /لخالد بن الوليد/ بالالتفاف على جيش المسلمين وتطويقه، بعد أن تظاهرت النساء بقيادة “هند بنت عتبة” واللواتي كن يطرقن على الدفوف كمشجّعات، بالهروب إلى سطح الجبل، ومن هنا يرى الراوي الواقعي أنّ قريشاً قد أتقنت حبك لعبتها النّفسية والحربيّة على خير وجه.. وقتل خالد بن الوليد من بقي من رماة الجبل وقائدهم وتغلغلوا في صفوف المسلمين حتى مؤخرة الجيش وقُتل “مصعب بن عمير” على يد”ابن قمئة” ظانّاً أنّه الرسول لتبدأ صرخته ببثّ سمومها في الجسد المسلم، المتضعضع، ثمّ ليأتي موقف آخر تجلّى بأولئك الذين فرّوا صوب “الصّخرة” محتمين، واعتصموا بها هاتفين حسب “ابن كثير”بالقول: /.. فقال بعض أصحاب الصّخرة، ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي سلول، فيأخذ  لنا أمنة من أبي سفيان، يا قوم إنّ محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم، قبل أن يأتوكم فيقتلوكم/، ولعلّ من أسباب الهزيمة أيضاً، كما تقول كتب السيرة هو عدم رغبة الرسول بهذه المعركة أصلاً، لكنّه نزولاً عند رغبة أصحابه اعتمر لباس الحرب، ورفض أن ينزعه عنه حين حاولوا فيما بعد ثنيه عن الأمر، فقال لهم: ما كان لنبيٍّ إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحارب، وجعل لهم شعاراً يشبه شعار “بدر” ..أمتْ..أمتْ/ مختصراً كلمة يا منصور التي صاغها في “بدر” كما يقول /الحلبي.
وثمة من يقول أيضاً إنّ رفض مشورة “ابن سلول” المحارب العتيق “زعيم الخزرج” والذي وصف بـ “المنافق” بأن ينتظروا قريشاً لتأتي إليهم في حصونهم، وبذلك لن تستطيع هزيمتهم لأنهم سيهبّوا لصدّها رجالاً ونساء وأطفالاً، مدفوعين بمشاعر من يحارب عن أرضه وكرامته.. إذ لم يسبق أن هزمهم أحد في عقر دارهم.. ويروي “الطبري” أنه عند بدء الهجوم في “أحد” على أصحاب الرسول بغية الوصول إليه تفرّق عنه أصحابه وهرب بعضهم إلى المدينة لا يلوي على شيء، ولامتهم نساؤهم على ذلك، بينما استمرّ النبي بالمناداة: / إليّ يا عباد الله إليّ يا عباد الله/.
هكذا عادت “قريش” متوّجة بالنصر منفرجة الأسارير منتقمة لقتلاها، مستعرضة بطولاتها على لسان شاعرها “هبيرة بن أبي وهب”:
سقنا كنانة من أطراف ذي يمن          عرض البلاد على من كان يزجيها
قالت كنانة: أنّى تذهبون بنا؟            قلنا: النخيل، فأمّوها ومن فيها.
فأجابه شاعر الرّسول “حسان بن ثابت”:
سقتم كنانة جهلاً من سفاهتكم         إلى الرسول فجند الله مخزيها
أوردتموها حياضَ الموت ضاحية      فالنار موعدها والقتل لاقيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت          أهل القليب ومن ألقينه فيها.
أما الذين تشكّكوا كيف يهزمون والله معهم ورسوله؟ فقد جاءهم جواب الوحي يقول لهم إنّهم وإن أُصيبوا في “أحد” فقد أصابوا في “بدر”/ وأمّا ما أصابكم مصيبة وقد أصبتم مثليها، قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كلّ شيء قدير / 165من سورة آل عمران.