ثقافة

الفنان الراحل مصطفى فتحي في ندوة “الأربعاء التشكيلي” محمود جوابرة: كان ينبش تحت جلدنا بحثا عن المستور فينا

تجربة الفنان الراحل مصطفى فتحي من أهم التجارب التشكيلية السورية وأكثرها إلحاحاً على الاستذكار، لما كان لشخص الفنان من فرادة في السلوك والبحث في  شأن التجربة وتفاصيل خبرتها التقنية والمهنية والتي أدت به إلى نهايته أخيرا مصاباً بـأكثر من علة وعشق حتى قضى متأثرا بمرضه نتيجة شغله بتلك المواد.
وقد تناولت ندوة الأربعاء التشكيلي هذه التجربة بمستوياتها الشخصية والبيئية التي عاشت بها، وتطورت ونمت خبرتها من خلال البحث الميداني والمهني والأكاديمي سواء في جامعة دمشق أو في فرنسا، وبعد عودته إلى الوطن لاحقا  أضحى أكثر عمقا ودرسا لفنون بلادنا الريفية والفلاحية والبدوية، والاهتمام بمفردات هذه البيئة الخبيئة من خلال التفتيش عن رسم أو وشم دق على وجه امرأة، وصولا إلى أقصى الرموز تجريدا على مرقعات البدو وسجاجيدهم الملونة.
ومن الأهمية أن يشارك في الندوة محاضرا عن تجربة الراحل صديقه الفنان محمود جوابرة الذي لازمه في سنواته الخمس عشرة الأخيرة، أكد فيها الفنان جوابرة أنه لا يمكن فهم أي تجربة فنية بمعزل عن البيئة والنشأة وأسلوب الحياة الخاصة للفنان وقد عرض خلال حديثه صورا من ذكرياته مع الفنان بعد أن عرّف بنشأة الفنان فتحي وموهبته وفرادة شخصيته، وقد قسم موضوع الحديث إلى ثلاثة محاور: النشأة والسلوك الحياتي والمرسم.  ولد الفنان مصطفى فتحي مصطفى الطباع سنة 1942 من أسرة حموية الأصل قدمت مدينة درعا عام 1912 وكان جده مقوما للحجاج، أقام في قرية المزيريب أولا ثم انتقل إلى مدينة درعا، عمل والد الفنان حلاقا وقد شهد جوابرة أن هذا الحلاق كان ذو مزاج مختلف يتمتع بذائقة عالية وقد كنا نستمع لمحمد عبد الوهاب ومنيرة المهدية من الراديو الذي في دكانه. ويتابع  جوابرة: درس الراحل مصطفى فتحي على يد الأستاذ الفنان محمود حماد في الصف العاشر وقد توطدت العلاقة بينهما واكتشف حماد موهبة مختلفة عند طالبه فشجعه على الدخول في كلية الفنون الجميلة بدمشق، ويذكر الفنان فتحي في أحد حواراته أن للأستاذ دور كبير في اكتشاف الفنان في شخص طالبه وأشار إلى الدور الذي لعبه أستاذه في تشجيعه ودعمه.
في دمشق سكن الطالب في منطقة باب صغير بأجرة ثلاث ليرات آنذاك وقد تعرف على رجل  يشغل دكانه بأعمال الطباعة وبيع الشراشف والأقمشة المطبوعة بالطريقة البدائية التي يقوم بها الرجل، وقد تعلم منه هذه المهنة وبعد أن توفي صاحب المحل اشترى من أولاده الأختام الخشبية التي كانت تطبع بها الأقمشة، وللتعريف كانت هذه الأختام تصنع من الخشب أو بعض المواد الأخرى وتصنع الأصبغة من المواد الطبيعية، وعملية الطباعة تشمل التبصيم وطريقة حفظ الأحبار من خلال معالجة القماش بطريقة خاصة. هذه الحرفة استهوت الطالب الفنان مصطفى فتحي وكانت هي الحامل المادي لأفكاره وتصوراته عن الأشكال الجديدة التي يؤلفها مستندا إلى كم هائل من محفوظاته للأشكال لاحقا.
تخرج الفنان الراحل من كلية الفنون الجميلة قسم الحفر بتفوق على يد أستاذه غياث الأخرس، وأصبح معيداً في الجامعة، وقد أوفد إلى فرنسا وهناك بدأت رحلته الجديدة حيث تعرف على زوجته الفرنسية التي حصلت على شهادة الدكتوراه في الثقافات الشرقية فيما بعد، وقد اهتم الفرنسيون بإبداع فتحي الذي تشكل الرموز الشرقية محور  تجربته واعتبر من أهم خمسة فنانين في العالم يشتغلون في طباعة الأقمشة وزخرفتها، والمعرض الأول له كان عام 1989 في معهد ثقافات العالم، ويحتفظ متحف الطباعة على الأقمشة بأعمال له وهو أول فنان عربي يقتني له المتحف.
أيضاً للفنان معرض إشارات وزخارف أقيم في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق 1990 حيث عني الفنان بالذاكرة “التلقائية والمغيبة من تمائم وتعاويذ كانت ملاذا روحيا لبشر المنطقة في مواجهة ألغاز الحياة”. لم يكن لديه جملة بصرية فائضة أو تزيينية، وقد اشتغل بذهنية الباحث العميق على تفكيك أسرار الرموز وإعادة إحيائها على أنها رموز أصيلة ليحميها من الاندثار وقد قدم تجربته بعقلية المتفتح والعارف لآخر مدهشات التشكيل الحداثوية وما اختياره لنبش الموروث، وإعادة تشكيله إلا للتخلص من صدمة الحداثة  في الفنون التشكيلية التي وجدها هناك. وقد اختتم الفنان جوابرة شهادته بقراءة نص قصير كتبه في رحيل صديقه فتحي ومنه نقتطف:
“لا أحتاج لأحد، لا نساء ولا أصدقاء، ولا لولائم ولا عطور، فلدي أشجار وطيور وحجارة سوداء، وتربة حمراء وحقول مفتوحة على الشمس، ولدي تراث عمره خمسة آلاف عام، لأنبش فيه المستور تحت جلودكم، حاربت من أجل أن أحارب، وحين تعبت أكلت رمحي، وشربت سهامي وغفوت، سأرحل عاريا كما جئت، وربما تبدأ حياتي من تلك اللحظة، أستعيد بساطتك وعمقك، زاهد في الحياة، مفكر وفنان أصيل عاش حياته فنانا وحسب، ما أكبر مظلتك تحت الشمس”.
وقد شارك في الندوة أكثر من عشرين فنانا تشكيليا منهم أصدقاءه ومنهم من دفعته في التخرج من كلية الفنون كالفنانين نعيم شلش، هدى موسى، نذير إسماعيل الذين قدموا شهادات غاية في الأهمية عن تجربة فنان عرف بتجربة فريدة تنتمي إلى روح هذه البلاد  الولاّدة للجمال والعشاق.
أكسم طلاع