ثقافة

محمد الماغوط… مسرح بطعم العلقم

لأنه الفن الأول الذي يرصد ويعبر، وبشكل مباشر، عن هموم وقضايا المجتمعات، ولأنه يشكل وجهة نظر مؤثرة وبناءة، فإنه جعل من كتّاب المسرح أوائل الراصدين لتغيرات وتبدلات المجتمع في كل المناحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولعلنا من بين أولئك الذين تناولوا ما يحدث في مجتمعهم، كلّ بأسلوبه، نميز أعمالاً أثرت وكانت لها بصمتها الواضحة لأديب تم تصنيفه ككاتب عالمي إلى جانب المفكر أمين معلوف من بين الأدباء العرب هو المبدع محمد الماغوط.

مرارة الحياة
الماغوط الذي اقتربت ذكرى رحيله، ابن مدينة السلمية بوحلها وبردها وأبقارها ورياحها كما يقول، لم يشأ أن يكمل تعليمه في الثانوية الزراعية، وفضّل ان يبدأ حياته العملية كمحرر في مجلة الشرطة وكصحفي تنقل بين سورية ولبنان ودولة الإمارات، وبالرغم من أن بداياته الأدبية كانت في الكتابة الشعرية إلا أنه كان شعراً مطعماً بروح المسرح، ومنه انتقل إلى الكتابة المسرحية التي عكست مرارة حياة امتلأت بالجوع والحرمان والافتقار إلى الاستقرار، كانت المحرض الأول لأعمال أدبية تحمل روح التمرد وعشق الحياة، وكما مقالاته الصحفية، حملت أعماله المسرحية أفكاراً نقدية وتصويراً بليغاً للواقع العربي بما يحتويه من تناقضات تصدى لها صاحب” كاسك يا وطن” بالنقد اللاذع في صورة تهكمية ساخرة.
قدم الماغوط أعمالاً عديدة بعضها توجهت للقراء كالمهرج والعصفور الأحدب، بينما خص رواد المسرح بالعديد من الأعمال، عبر تعاونه مع الفنان دريد لحام الذي شاركه كتابة بعض نصوصها.

العصفور الأحدب
في مسرحية العصفور الأحدب، والتي استوحاها من تجربة هروبه وتخفيه في أحد البيوت الصغيرة الواطئة في أحد أحياء دمشق، يقدم شخوصه الهاربين من حياتهم السابقة في محاولة للانتقام منها، القزم والكهل، الشاب وصانع الأحذية والعصفور الذي رآه كل منهم على صورة ما يفتقده، وقد حولتهم الوحشية إلى وحوش تتحيّن الفرص للانقضاض على أعدائها، بذات الوحشية التي عانوا منها.
وبأسلوبه الساخر اللّاذع يصور حياة الفلاحين وقد سحقها طغيان الصناعة وعصفت بآمالهم وكرامتهم، هم من كانوا يوماً ما أسياداً في أراضيهم، يصور التغيير الذي يصيب من يصل بطريقة ما إلى المناصب، ويسخر من المثقف العربي الفاقد لهويته، إذ يتساءل المثقف في مسرحيته قائلاً:”لا أعرف بالضبط ماذا أكون، فالمثقف يطرح هويته على حافة العِلم كما تطرح المستحمة سروالها على حافة السرير”.
أما في مسرحية”المحاكمة” فنحن أمام محاكمة لعائلة جريمتها الكبرى”الغناء للمطر والحب” يسخر فيها من الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ويقدم رؤيته عن علاقة الحاكم بالشعب والإدارات التي عشش فيها الفساد، يقول المتهم متهكماً:”لقد تقدمت بما فيه الكفاية، يكاد أنفي يلامس حذائك”، وفي مكان آخر يعرض القاضي التهمة فيقول: “منذ ألف عام أو بعد ألف عام لا نذكر، شوهد المتهم بصحبة امرأة حنطية، ممزقة الثياب مع عدد من الأطفال، يسيرون ويغنون تحت الغمام الشفاف، وهذا لا يتفق مع ما يتطلبه الوطن من صلابة ومجد”.. ويكمل:”وهما يحملان سنبلتين جافتين باحترام وحنان لايوصف” فيجيبه المتهم بسخرية مؤلمة:” وما الجريمة في أن نحمل سنبلتين جافتين، هل تريدوننا أن نحمل مسدسين لنكون مواطنين شرفاء” لتنتهي المسرحية بقرار إعدام جميع أفراد العائلة بتهمة الفرح.
بينما في مسرحيته “خارج السرب” يرسم تفاصيل عرض لمسرحية” روميو وجولييت” على أحد المسارح، وفي لحظة حاسمة، يأخذنا في منعطف درامي غريب إذ ينبثق من بين شخوصها الأساسيين، مندوب “المنظمة العربية” مع أوراقه وملاحظاته لتطوير وتحرير المسرح العربي، وفي المسرحية يهاجم الماغوط من اعتبرهم أعداء المسرح بلغته الساخرة وأسلوبه الفتان.

مع دريد لحام
من بين أعمال الماغوط، تميزت تجربته مع الفنان دريد لحام بالتعاون مع فرقة تشرين والذي نتجت عنه عروض فريدة زاوجت بين المسرح الشعبي والمسرح السياسي، بطعم المرارة والاستعراض والنكتة الشعبية، أعمال حيرت النقاد وشكلت جاذباً لجمهور متعطش للدخول في لعبة أداتها الكلمة القوية التي تطلقها حناجر متمسكة بالأرض، مطالبة بالحق في حياة حرة وكريمة.
مسرح امتلأ بالمتناقضات، فهنا الحاكم والمحكوم الثري والمعدم، وهناك المناضل والانتهازي، الشهيد وسارق الانتصارات، مسرح تندر فيه الأحداث، غني بالأفكار، عبر مشاهد ترسم صورة داكنة لمجتمع نخره الفساد، من خلال شخصيات بسيطة، تمثل قيماً محددة كمختار ضيعة تشرين الذي يمثل السلطة، ومعلم غربة الذي يمثل القيمة النبيلة، بينما حملت العجوز الجانب المشرق المحرض على التفاؤل، أما دريد لحام فكان المواطن المسحوق في مواجهة الانتهازيين في” كاسك يا وطن ، أما في ” شقائق النعمان” فتطالعنا صورة الشهيد بما تمثل من قيمة سامية في مجتمعنا.

وجهاً لوجه
للماضي حضوره لدى الماغوط، أعاده إلينا ووضعه وجهاً لوجه مع حاضرنا، استقدم صقر قريش فارضاً عليه العيش في هذا الزمن بما فيه من تناقضات ومفارقات، وهو أمر كرره في العديد من مسرحياته كشقائق النعمان وكاسك يا وطن.
أعمال الماغوط التي عاب فيها “سعد الله ونوس” الحالة التنفيسية، بينما وصفها الآخرون بالجريئة، ليست سوى صورة عما رآه الماغوط أينما جال بصره، فقدمها صادقة بلغة عفوية كاشفة ريفية ربما استطاع هو وصفها بدقة أكبر، إذ يقول في واحد من الحوارات الصحفية:”أنا لست جريئاً، ولكني صادق مع نفسي، لا استطيع أن أكون جباناً قبل الظهر، وشجاعاً بعد الظهر، يسارياً عند العصر، ويمينياً عندما يهبط الليل، ناصرياً في الربيع، وشيوعياً في الشتاء، كنت أنا نفسي في جميع الفصول والأوقات والأزمات”.
بشرى الحكيم