ثقافة

مقاربة المسرح للأزمة.. بين المباشرة والرسائل المبطنة

يقول شكسبير “الحياة مسرح كبير”.. من هنا كان المسرح هو الفنّ الأقدر على تجسيد معاناة الناس والبوح بأوجاعهم، والأقدر على التغيير من خلال الخطاب المسرحي الموجّه، والحامل لمضامين القضايا القومية والإنسانية، والمحلل للأبعاد السياسية والاجتماعية والنفسية التي تنسحب على المجتمع برمته، لذلك كان لابدّ أن يتأثر بتبعات الأزمة وملامحها كما تأثرت بقية الفنون، وتمكن رغم كل العوائق والأوضاع الصعبة من تقديم جملة عروض قاربت واقع الأزمة وحملت قراءات مختلفة للمتلقي، وجاءت بمستويات متدرجة، فبعضها تناول الأزمة بشكل مباشر، في حين لجأ بعضها الآخر إلى التضمين بخطّ درامي آخر يستشفه المتلقي، وأخرى تميّزت بالإسقاطات الساخنة وبرسائلها المبطنة رغم محورها العام البعيد عن الأزمة، وجميعها كانت تدعو إلى وضع حدّ للمجازر والقتل والتخريب.
ولمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمسرح التقت “البعث” عدداً من المسرحيين السوريين للوقوف على مدى مقاربة المسرح للأزمة وهل جاءت الأعمال بسوية فنية مقبولة؟
البداية مع د.تامر العربيد عميد المعهد العالي للفنون المسرحية الذي تحدث عن دور المسرح الحقيقي في محاكاة هموم الناس ومعاناتهم فكلما كان قريباً من الناس كان أكثر صدقاً وارتباطاً بالمجتمع،لأن المسرح هو فنّ الحياة وابن الفترة الزمنية والبيئة التي يقدم نفسه من خلالها، وليس من الممكن أن يكون مجرد فن ترفيهي أو استعراضي لأن المسرح يحمل دائماً قضايا إنسانية، والمسرح السوري كان دائماً صاحب قضية، وكل عروضه تقارب الهمّ الوطني والمعيشي، وقد تأثر كغيره من الفنون بالأزمة. ويوضح د. العربيد بأن العروض التي قدمت لم تكن بعيدة فبعضها تناول الأزمة بشكل مباشر وبعضها بشكل غير مباشر، وأغلب العروض التي قدُمت في المسارح السورية أو في المعهد كمشاريع تخرج كانت تحاكي الواقع، ويضيف:ما رأيناه في العروض كلها أنها قاربت بشكل أو بآخر ما نسميه ارتدادات الأزمة، وما يسجل للمسرح السوري أنه لم يتوقف رغم الأزمة، والأمر الهام الذي تطرق إليه د.العربيد هو الحالة البديلة التي أوجدها الشباب السوري في البحث عن أمكنة العرض البديلة عن الأمكنة التقليدية، فأصبحنا نرى المسرح في الساحات وتحت الجسور وفي المقاهي التي حوّلها الشباب إلى مسارح للتعبير عن أفكارهم، وهذا شيء جميل يجب أن نكرسه بتوجيههم نحو الثقافة بكل أنواعها بدلاً من انشغالهم بأشياء أخرى.ومن هنا يرى د. العربيد بأن المسرح السوري سيكون مثله مثل بقية الفنون مطالباً بالتغيير، وهو قادر على تقديم أعمال هادفة تعكس انعكاسات الأزمة.

“قهوة مرة” الأقرب
ويبيّن الكاتب جوان جان أن المسرح واحد من أكثر الفنون التصاقاً بالشارع وهمومه ويومياته، لذلك كان لا بدّ من أن يلتقط الإشارة ليبدأ بتقديم نفسه كفنٍّ مواكِب للحدث ومحلل له ومستكشف لأبعاده. ويضيف: إزاء ما قُدم نصنف التجارب المسرحية التي أفرزتها الأزمة السورية إلى ثلاثة مسارب: الأول تناولَ الأزمة بشكل مباشر وربما كان أقرب الأمثلة إلينا مونودراما “قهوة مرّة” التي قُدِّمت مؤخراً وهي من تمثيل وإخراج حازم حداد، حيث رصدت واقع حال المواطن السوري عموماً والحلبي خصوصاً وهو يعاني من آلام التشرّد والابتعاد عن البيت والحيّ والجيران، إلا أن هذا العمل برأيي وقع بمطب واحد وهو أن انحيازه للموقف شبه الحيادي الذي تتبناه الشخصية قد انسحب على مجمل الموقف الفكريّ للعمل فبدا بحد ذاته حيادياً، نذكر أيضاً في هذا الإطار مسرحية “نبض” للمخرج مأمون الخطيب الذي رصد فيها مصير ثلاث شخصيات نسائية اكتوينَ بنار الحرب والخراب. المسرب الثاني الذي نتج عن الأزمة تناولها ولكن بشكل غير مباشر كمسرحيات ” بار بشارع الحمرا” لكفاح الخوص و”دائرة الطباشير” لأيمن زيدان و”حدث في يوم المسرح” للمهند حيدر ومونودراما “نديمة” لعلي صطوف، أو كان التناول ترميزياً كما في “إكليل الدم” لزيناتي قدسية و”عن الحرب وأشياء أخرى” لعروة العربي و”هستيريا” لجهاد سعد. أما المسرب الثالث فقد ابتعد تماماً عن تناول موضوعة الأزمة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر واكتفى بإرسال رسائل ذات طابع فني بحت وفكري يتصف بالعمومية، ناجياً من الوقوع بفخّ التقييم بناء على التحزّبات والانتماءات.

معطيات جديدة للمسرح
وتذهب الفنانة أمانة والي إلى منحى أبعد من توصيف المسرحيات بين المباشرة وغير المباشرة ، فتؤكد أن تبعات الأزمة وانعكاساتها على مناحي الحياة ككل أدخلت الدراما المسرحية في مسارات جديدة ضمن معطيات ومشكلات فرضتها الأزمة، فبحث المسرحيون عن أساليب للتعبير عن الأزمة بمباشرة مثل مسرحية نبض أو بالرموز والإيحاءات مثل مسرحية دائرة الطباشير ، في النهاية كل ما قُدم كان مشروعاً ومقبولاً وملامساً للواقع، إذ عبّر كل مخرج عن وجهة نظره ورؤيته بالطريقة التي يرغب بها،وبرأيي إن الجمهور هو صاحب القرار إذا كانت الرؤية واضحة له تعبّر أو لا تعبّر؟وكيف يقرأ هذا العمل ويتأثر به ويترجم مقولاته سواء أكان الطرح الفني من خلال التلفزيون أو المسرح أو السينما؟

طروحات متعددة
وتشاركنا الرأي المخرجة والكاتبة سهير برهوم التي قدمت مع المخرج زيناتي قدسية إكليل الدم الذي يعرّي واقع الحكومات العربية التي تساند الإرهاب، ويبث رسالة بأن القضية المتعلقة بالوطن محسومة لمن يدافع عنه ويحميه، كما تقول، وتتابع قائلة: لابد للفنّ أن يتصدى لما يحدث من منطلق موقعه والعروض المسرحية لم تتوقف رغم الصعوبات والمخاطر، فجاءت الطروحات متعددة ومختلفة الآراء والمواقف ولم تكن مواكبة فقط للأزمة وإنما تعدت ذلك لتكون نوعاً من التحدي، ولايمكن للفن أن يغرد خارج السرب بعيداً عما يجري، لذلك فهو ينحاز بقصد أو غير قصد للوضع القائم فيجيّر كل أفكاره لصالح الهمّ العام ، وفيما يتعلق بالمتلقي فإنه يجد نفسه رغماً عنه إزاء تحليل إسقاطات واقعية من خلال العرض الذي يشاهده، فالحرب تفرض نفسها شئنا أم أبينا على أعمالنا، وتصل برهوم إلى نتيجة، ليس مهماً القول إن مسرحنا نجح في ذلك أم لا ، الأمر الأهم أن نحاول.

أزمة ضعف الثقافة
ويرى المخرج المهند حيدر الذي قدم عرض “حدث في يوم المسرح” الذي يحكي عن هموم المسرح ككل كونه جزءاً من الثقافة وله دور بتغيير المجتمع، ويبدو أنه بعيد عما يجري الآن لكن حيدر تطرق للأزمة بشكل غير مباشر من خلال عامل المسرح الذي يحمل شعارات خاوية وزينة التي تهدم بيتها فلجأت إلى المسرح لتلوذ به، وبالمعنى البعيد الذي يرمي إليه حيدر لجأت إلى الثقافة، وكما يقول المخرج حيدر:الثقافة  كانت أحد أسباب الأزمة التي نتجت عنها أزمة فكرية واجتماعية وأزمة متطرفة، وهذه الإشكالية وقعت على عاتق المثقفين والمسرحيين لبناء مجتمع حقيقي لأن المجتمعات تُبنى بالثقافة والحل الأنسب للخلاص من الأزمة هو الحل الثقافي، وهذا يضعنا إزاء تساؤلات ماذا قدمنا؟هل قدمنا تهويمات مسرحية أم جرعات مسرحية؟المسرح له دور حقيقي في البناء وإلا فنحن مقصرون،وكل مخرج طرح مقاربة مبنية على الواقع من وجهة نظره ووفق الفكر الذي يحمله، أنا أرفض المباشرة في الطرح لأنها تتحول إلى مزاودات وطنية وأنا ضد المتاجرة بأوجاع الناس في الوقت الذي الوطن كله موجوع، مهمتي أن أمنح الناس مساحات من التفاؤل وأرشدهم إلى الطريق الصحيح، فتقديم الأزمة كما نراها في نشرات الأخبار ليس فعلاً إبداعياً.

نصوص بعيدة عن المجاملات
ويقول الموسيقي باسل صالح الذي وضع الموسيقا التصويرية لمسرحية نديمة، هذا العمل الذي استطاع أن يحاكي جميع الشرائح لأنه بسيط وواضح وغير مبتذل: هذه هي مهمة المسرح أن  يتوجه للجميع .وبرأيي الأعمال المباشرة مطلوبة وكذلك غير المباشرة ،لكنني أرفض الأعمال التي لم ترتق إلى مستوى الأزمة، فالمسرح عندما يكون هابطاً يكون جزءاً من الأزمة الثقافية التي أفرزت أعمالاً كانت جزءاً من الأزمة، سطحية في الطرح والرؤية، وبرأيه أن النصوص المسرحية يجب أن تخضع للجنة تقييم بعيداً عن المجاملات والشللية، ويتابع بأن الأزمة انبثقت من أزمة تربية وأزمة ثقافة فكثير من الشباب انقادوا إلى التفكير المضلل،لذلك من واجبنا الاهتمام بالثقافة.

سطر أخير
من مختلف الآراء التي وردت نقرأ أن المسرح كان حاضراً خلال سنوات الأزمة وضمن الإمكانات المتاحة والأوضاع الحياتية الصعبة التي تحكمنا، قدم الكثير،لكنه مطالب بأكثر لأنه مرآة تعكس واقعنا بكل ما فيه.
مِلده شويكاني