ثقافة

محمد الحريري … شاعر سوري.. هل أنصفناه؟

“يا صياد إن تبصر يوماً بلبلْ/لا تقتله/ما البلبلُ غيرُ فؤادٍ قد غادرْ/من حبٍّ آسِرْ/صدرَ شاعِرْ…”
ماذا يعني ألا يعبأ شاعر بنشر نتاجه ـ تجميعه في كتاب ـ وطباعته لديوان بدل أوراق متفرقة موزَّعة هنا وهناك؟
في رأيي أنَّه يكتب لنفسه، ويريد أن يعبر عن مشاعره، وأحاسيسه فحسب، وله في هذا لذة ومتعة، ما بعدهما لذة ومتعة. وهنا أقول: إنَّ أجمل الكتابة من يكتب ليستمتع، ويستلذُّ هو أولاً، وأفشلها من يكتب للآخرين فحسب، بلا اعتبار لنفسه، أي أنَّه يكتب كي ينشر في صحيفة، أو مجلة، أو حتَّى يصدر له كتاب مطبوع، فإذا لم تستمتع أنت بما تكتبه. كيف تريد للآخرين أن يستمتعوا؟ إذاً هاجس الكتابة الأول هو المتعة الذاتيَّة، وتالياً أن توصل ما تكتبه إلى الآخرين.
طرافة وظرف
محمد الحريري موهبة شعريَّة فطريَّة، يستطيع تحويل أي موقف حياتي إلى مقطوعة شعرية، ففي قصيدته “لقاء تحت لهاث الشمس” يستوقفنا العنوان كأنَّ الشمس تحبِّذ هذا اللقاء القائم على الحبّ. فاللهاث يحدث عادةً عند الركض بسرعة، وهي إنَّما تركض لاهثةٌ كي تعجِّل بموعد التقاء الحبيبين:
الساعةُ تدفع عقربها         لتُشير إلى زمن الوعدِ
وأنا أستمعُ في كهفٍ         نقر اللحظاتِ على كبدي
(دلالة على سكن الشاعر في قبو)
منقار اللحظة مخضلٌّ    بنزيف الصبرِ المستجدي
(يشبِّه اللحظة بطير جارح منقاره ملطَّخٌ بدم الحبيب النازف في صبر كظيم)
وتأتي الحبيبة، فيبدأان السؤال عن الحال والأهل، العمل والصحة، بجدٍّ وصرامة، بادئ ذي بدء. ثمَّ يدور المزاح اللطيف:
وحَديثٍ أوَّله جَدٌّ           وأواخره عكسُ الجَدِّ
وتفاجِئ ساعةَ معصمها    لتصيح تأخر بي عَودي
(هي التي تفاجئ ساعتَها، وكأنَّ الساعة منسجمة
في لقاء المحبَين ساهيةٌ عن ضبط الوقت)
ثمَّ يختمها:
قدم في السلم هابطةً        تنسلُّ من البيت الوغدِ
(لقد أصبح البيت وغداً حقيراً لعدم وجودها فيه
ولكن لماذا تنسلُّ القدم هابطةً
ولا تصعد خارجة من القبو أو الكهف؟)
كما نلاحظ: تعابير سلسة، وعفوية قريبة من النفس، موحية ببساطة، ودون تعقيد مع طرافة ظرفٍ إضافة لمواضيع شعرية متعددة، نبدؤها بنبوءة في تماثل مع ما يحدث هذه الأيام على الساحة العربية عموماً من قتل وذبح بشعَين، وبطرق وحشية مقززة، نقرأ في قصيدة عنوانها “الإطار العربي الدامي”:
فالنيل دمع، والفرات مناحة            والغوطتان تأوه وحدادُ
هل عاد التتار غزوهم؟ وهل    دهم   الرؤوس من السيوف حصاد
وكأنَّ شاعرنا ينطق بلسان هذا الزمان العصيب المغمس بالدماء البريئة لإنساننا العربي من المحيط إلى الخليج.
الوحدة قوة
وبمناسبة ذكرى أول وحدة في تاريخ العرب الحديث التي تمت يوم 22 شباط 1958 بعد استفتاء الشعبين في الإقليمين: الشمالي: سورية، والجنوبي: مصر نراه يقول:
عودي إلى الأفق يا شمس المنى عودي             يا خلجة نصبت في الصدر معبودي
يا غارسي وحدتي طوفوا بغرستها            فإنَّها وثبة في كل أملودِ
لي موعد معها في العمر منفرد            وللعروبة حشد من مواعيدِ
وهنا لن أذكِّركم بما حدث عندما انطلقت القوات السورية والمصرية في وقت واحد وبتخطيط مشترك لخوض حرب 6 تشرين الأول/ عام 1973، بل سأذكر ما حدَّثني به الكثيرون من أهلنا في جولاننا الحبيب لا سيَّما الذين عاصروا الجمهورية العربية المتحدة إذ أكدوا لي، وأنا أدوِّن بعض الحوادث في روايتي “أبعد من نهار أو دفاتر الزفتية” أن قوارب صيدنا السورية كانت تصل تلكمُ الأيامَ إلى منتصف بحيرة طبريا دون أن يجرؤ الإسرائيليون على التعرُّض لها. وهنا أؤكد أنَّنا شعب تشرَّب الإيمان بالوحدة العربيَّة في البيت والحارة، وكلِّ مكان من سورية عبر حليب مدرسته، ويومياته المعيشة، وبرامج إذاعته وتلفازه، وصحافته، لذلك فنحن شعب وحدويٌّ بطبيعته خاصَّة مع مصر التي ربطتنا بها وحدة لا تنفصم عراها الوثقى، عمَّرت لثلاثة أعوام من 22 شباط 1958 إلى 28 أيلول 1961 واللافت وفاة رئيسها “العربي الأسمر” في ذلك اليوم المشؤوم 28 أيلول 1970. وعليه فما أبهج هذا اليوم القريب الذي نرى فيه عودة العلاقات بيننا مع استعادة مصر “شقيقتنا الكبرى” لدورها الريادي: دولةً عروبيةً، تقدميةً، تحررية كما عهدناها أيام الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.
تعريف
محمد الحريري شاعر سوري مهم. لكنَّه لم يأخذ حقَّه من الشهرة، ظهرت موهبته الشعرية مبكراً، إن كان في شعر التفعيلة، أم الشعر العمودي. وأزعم أنَّ كثيراً من أشعاره فقدت لأسباب عديدة، فكما يقول الأديب ممدوح عدوان:
“إذا خلفتَ بيتاً لم تنجزه كاملاً يمكن لابنك أن يكمله، أو أرضاً زراعية لم تحصدها يستطيع ابنك حصادها، بينما إذا تركت مجموعة أوراق مسوَّدة، أو مشاريع مخطوطات غير منتهية، فمن ذا الذي يستطيع معرفة ما أردته منها، وما كانت ستؤول إليه هذه “الطلاسم” غيرك أنت”؟
ولد شاعرنا الجميل في مدينة حماة عام 1922 ورحل مبكراً عام 1980، عاش فقيراً معدماً حياة شقاء وضنك. درس في مدارس حماة. ثمَّ انتقل إلى جامعة دمشق وتخرَّج من كلية الآداب/ قسم اللغة العربيَّة، ليشتغل معلماً في مدارس مدينة دمشق وثانوياتها، يصرف ما يجنيه على أمور حياته لدرجة أنَّه لم يستطع أن يطبع ديوانه الشعريِّ على نفقته الخاصَّة، فأخذ اتحاد الكتَّاب العرب على عاتقه طباعة هذا الديوان الضخم ـ جمعه أخوه يوسف، وقدَّم له الشاعر شوقي بغدادي ـ عام 1985 أي بعد رحيله بـ 5 سنوات.
أخيراً جميل أن ننشر نتاج الكاتب، شاعراً كان أو قاصَّاً أو روائيَّاً، لكنَّ المطلوب أيضاً أن يقوم نقَّادنا الأفاضل بدورهم النبيل، فيدرسون ما أبدعه، كي يأخذ مكانته التي يستحق بين مجايليه، مع فائدة أخرى للأجيال القادمة من بعده بأن تطالعه في رؤية نقدية محكمة، ذلك أنَّ الحياة تواصل أجيال على طريق لا ينقطع اسمه الإبداع العظيم.
أيمن الحسن